سقوط دمشق – (الفصل الرابع من "الترليونير السوري")
- بواسطة إياد الجعفري - خاص - اقتصاد --
- 23 آذار 2018 --
- 0 تعليقات
سار بخطى متثاقلة باتجاه جناح نومه الخاص.. كان يسير والأفكار تتلاطم في ذهنه، فحصيلة لقائه مع ديفيد باركر، الصحفي اليهودي – الأمريكي في "نيويورك تايمز"، أنبأته بأن ظنونه في محلها، وأنه قد يكون على طريق مواجهة مُرتقبة في أي لحظة مع الإسرائيليين.
كان جمال يفكر بالإجراءات الفورية الواجب اتخاذها اعتباراً من الغد، برفقة قادة الدولة السورية، الذين كانوا فعلياً، أقرب لموظفين لديه، بحكم كونهم ممثلين للحزب الذي يقوده، وبحكم النفوذ المالي والسياسي والأمني الهائل الذي يمسك من خلاله بـ "تلابيب" الدولة السورية الجديدة.
"الحرب على الأبواب".. برقت تلك الخاطرة في ذهنه، والتمعت وكأنها عبارة مكتوبة أمام عينيه. لكنه قرر أن لا سبيل لتفادي ذلك، إن أصرّ الإسرائيليون على إخضاعه.
وأخيراً، وصل منهكاً إلى جناحه الزوجي الخاص.. دخل الجناح الضخم الذي يضم عدة غرف خاصة به وبزوجته، فقط.. وحالما دلف إلى غرفة استراحة مجاورة لغرفة النوم.. رأى إيمان تجلس في ركنه المحبب، وراء الطاولة الخشبية المعمولة بفنون "الأرابيسك" التي يعشقها، وأمامها عُدة الشاي الأخضر الذي بات "وِرده" اليومي تقريباً، برفقة آنية العسل، وغلاية الماء، وأعشاب الشاي الأخضر السيلاني، اليانعة، التي تصله بالطائرة كل بضعة أيام في طلبيات خاصة به..
كانت ترتدي ثوبها الأحمر الحريري الشفاف، الذي يُعرّي صدرها العارم، ويشف عن معظم تفاصيل جسدها الممشوق، ببشرتها البرونزية، وشعرها الأسود الفاحم المتهدل على كتفيها.. ونظرات عينيها الخضراوتين المزدانتين بالكحل، تخترقه..
"هل يُعقل أن هذه المرأة تبلغ من العمر 50 سنة؟!".. حدّث نفسه، وهو يتقدم تجاهها، بعد أن استولت البهجة عليه، فتلك إحدى أعزّ لحظات يومه عليه.. حينما يشرب الشاي الأخضر برفقة حبيبته، وصديقته، وشريكة عمره، ويُفضي لها بكل مكنونات صدره، من هموم ومشاكل وتطلعات، فتكتفي بالاستماع حيناً، لتضمه لاحقاً إلى صدرها ليهدأ ويستكين ويشعر بالأمان.. وتناقشه في مشكلاته حيناً آخر، لتقترح حلولاً أو تلفت نظره لأفكار ممكنة..
كانت إيمان فاتنة بكل ما للكلمة من معنى، بقدٍ ممشوق، وبشرة برونزية امتصت الكثير من أشعة الشمس في شبابها، ناهيك عن شعر أسود فاحم غزير، ووجه دائري وشفتين ممتلئتين بارزتين، وعينين كبيرتين، بخضرة يداخلها شيء من الرمادية..
لم تكن إيمان فقط فاتنة شكلاً، بل أيضاً مضموناً.. كانت تحمل شهادة عليا في اختصاص تقييم المخاطر الائتمانية البنكية، بموجب دراسة في جامعة خاصة بريطانية.. وكانت تتشارك مع جمال في هواية المطالعة المكثفة، التي منحتها سعة أفقٍ وإطلاع واسعين، ناهيك عن اشتراكهما في الاهتمامات، فكانا يعشقان معاً، القراءات في مجالات الفلسفة والأديان والسياسة والاقتصاد والروايات.
تتقن إيمان ثلاث لغات، الإنكليزية والفرنسية، وشيئاً من التركية. وسبق أن خاضت دورات تدريبية في مجال فنون التفاوض، وفي مجال العلاقات العامة.
ولم تكن إيمان، فاتنة شكلاً، وممتلئة فكراً وعلماً وثقافةً فقط، بل كانت أيضاً سليلة عائلة لبنانية عريقة، من آل الصلح، ذات المنبت "البيروتي"، من أصول "صيداوية"، تتحدر من سلالة تركية.
كانت إيمان تملك أقصى معايير المرأة النموذجية، التي سبق أن تخيلها جمال. وكأن القدر خصّ جمال بتحقيق أمنية عصيّة على الكثيرين، يندر من يحظى بها في هذه الحياة.. أن يجد المرء الشريكة المثالية التي لطالما حلم بها، شكلاً ومضموناً، ونسباً.. وأيضاً، خُلقاً.
لكن تحت أسترة كل هذه الميزات التي ميّزت إيمان، كان سرٌ خطيرٌ يعتمل في داخلها، ويشكل أشواكاً حادة تنغص حياتها، وتقض مضجعها.. وكان أن باحت لـ جمال به، بعيد فترة من تعارفهما قبل أكثر من عقدين.. حينها ضعفت لوهلة تحت تأثير مشاعر الارتياح التي أحستها حيال جمال، وهي مشاعر قلما شعرت بها حيال رجل.. فانجرفت في ذلك، لتكشف سرّاً لم تكشفه لأحدٍ في حياتها، إلا لأُمّها، ذات الشكيمة القوية.
لكن جمال كان أحسن من "حسن ظنها" به، لم يستغل سرّها، بل ساعدها على معالجته، رويداً رويداً، فكان ذلك سبباً لولادة حُبٍ كبيرٍ، حُبٍ بُني على ثقة إيمان به، واستغلال جمال لهذه الثقة، باتجاه توطيدها، كي يضمن بقائها بجواره، لأنه أحبها. وعدها بكتمان سرّها، ودعمها في مواجهته، فكان عند وعده لها. وهي وثقت به، فكان عند حسن ثقتها. فكانت الثمرة حُباً كبيراً، تأسس على مشاعر الأمن، وتعزز بالثقة، وتكرس بالمودة، وتُوج بالرحمة.
***
- ما كنت أتجنبه طوال حياتي، بات قاب قوسين أو أدنى.
أفضى جمال لزوجته بنبرة تحمل شيئاً من الإحباط، وهو مرتمٍ بين أحضانها. قالت:
- كنت تعلم مسبقاً أنهم غير راضين عن مسارك، لقد حاولوا قتلك قبل سبع سنوات فقط.
- كنت أظن أنني تمكنت من تأجيل المواجهة معهم لأمدٍ أبعد. ما زلنا في طور بناء الدولة، سوريا خرجت من عقدين من الحرب والاقتتال والفوضى والدمار. ولم نكمل عقداً من التعافي بعد. نحتاج إلى المزيد من الوقت.
- وهل تظن أنهم سيُمهلوك إلى حين استكمال التعافي؟!
- هل ترين أنني متعنت؟
- لا.. لا تلين يا جمال.. المسار الذي اخترته واضح، وأنت كنت على يقين مسبق أنهم لن يتركوك تسير فيه حتى النهاية دون أن يحاولوا إيقافك. حتى لو لم تعزز القدرات الدفاعية قرب الحدود. يكفي أنك تُؤسس لدولة قوية اقتصادياً وعلمياً وسياسياً، وحتى اجتماعياً. ذلك كفيل بإثارة غضبهم عليك. والرضوخ لهم يعني أن تتخلى عن مشروعك في سوريا، مشروعٌ كدت تلقى حتفك في سبيله.
- إذاً، سيكون الصدام قريباً جداً.
- اتكل على الله، أنت مستعد منذ فترة لهذه المواجهة، وأنت قلت لي أكثر من مرة أن تقديرات القيادات العسكرية والأمنية أنهم مستعدون لمواجهة مع إسرائيل.. قد تكون هذه المواجهة ضرورية كي يبتعدوا عن طريقك حينما يشعرون بخطورة الصدام معك.
- لا أعتقد ذلك يا إيمان.. إن حصل الصدام، وتفاجئوا بقدراتنا العسكرية، كما أتوقع، سيُوقظون كل شياطين الدنيا لمحاربتنا،.. وهذه المرة لن تكون المواجهة مباشرة معهم، بل ستكون عن طريق آخرين.. دول وأطراف إقليمية ودولية ستتصدى لمهمة محاربتنا.. وستتضخم قائمة أعدائنا.. وهذا ما أخشاه.. أخشى أن يعرقل ذلك مسيرة البناء اليافعة في البلد.
- حلفاء إسرائيل في الغرب لن يخلطوا بين السياسة والاقتصاد.. ليس لهم مصلحة في ذلك، فانتعاش الاستثمارات في المنطقة ينعش اقتصاداتهم، وهم بأمس الحاجة لذلك.. أعتقد أنهم سيفصلون السياسة عن الاقتصاد، ولن ينالوا من مسيرة البناء في سوريا والمنطقة، كي لا يخسروا اقتصادياً.. أما المواجهة العسكرية، فهي محتملة، لكن ستكون محدودة، وليست شاملة.. اتكل على الله.. فهذه تقديراتك منذ أمد.. وهي توقعاتك منذ فترة ليست بالقصيرة.. لا تجبن حينما تحين اللحظة الحاسمة.
هدأت نفسه قليلاً،.. بالفعل، ما قالته إيمان هي تقديراته ذاتها التي سبق أن أفضى بها إليها، في أكثر من مناسبة سابقة، وأسس عليها سيناريوهات المستقبل.. كان يعلم منذ أمد أن المواجهة لا بد آتية مع الإسرائيليين.. هل استكان لشعور الأمن والسلام وأبهة الحكم والسلطة بعيداً عن الخطر؟.. ربما.. لكنه في النهاية حسم أمره، لن يغيّر قيد أنملة فيما سبق واعتزمه.
"إن تحرشوا بنا عسكرياً، لتكن الحرب"، قالها في نفسه بحزم.
***
في خريف العام 2033، تعرض موكب جمال الدمشقي لتفجير هائل أثناء مسيره في قلب العاصمة اللبنانية، بيروت.. تفجير ذكّر اللبنانيين والسوريين، والعالم، بحادثة اغتيال رفيق الحريري، قبل أكثر من 28 سنة.. فرغم التقنية العالية لرادارات رصد المتفجرات، التي كان يضمها موكب جمال، إلا أن الرادارات لم ترصد المتفجرات التي كانت تحت الأرض تنتظر مرور الموكب المُرتقب من نفس المنطقة، في تكرار لسيناريو اغتيال الحريري، بنفس التفاصيل، تقريباً.
كان وفيق الصلح، والد إيمان، بجوار جمال في سيارته الخاصة المُصفّحة.. وشاءت الأقدار أن يكون موضع سيارته بعد بضعة أمتار فقط من مركز التفجير لحظة حدوثه.. طارت سيارته من مكانها.. كانت تجربة مُريعة للغاية.. لكنه نجا مع بعض الإصابات غير الخطيرة.. أما وفيق الصلح، والد زوجته، الذي كان بجواره، فتلقى ضربة قاسية على الرأس أثناء انقلاب السيارة، أدت إلى نزيف حاد بالدماغ أودى بحياته في بضع دقائق بعيد التفجير.
كان وفيق حينها يرافق جمال إلى اجتماع رتبه الأول مع عدد من القيادات السياسية اللبنانية، بغية ترتيب أوضاع البلاد، بحكم النفوذ الكبير الذي بات يمتلكه جمال في لبنان منذ قرابة العقد.. نفوذ تعزز في السنوات الأخيرة قبيل محاولة الاغتيال، حتى بات جمال أحد اللاعبين الأساسيين في ترتيب تشكيلة الحكم في العاصمة اللبنانية، إلى جوار أطراف إقليمية ودولية كبرى..
وكان هناك خلاف شرس بين ذات المعسكرين، القائمين منذ أكثر من ربع قرن. معسكر يشكّل حزب الله ضلعه الرئيس، إلى جانب حركة أمل، والتيار الوطني الحر الذي يقوده خلفاء ميشال عون. ومعسكر آخر تشكّل قوى سُنية، في مقدمتها، تيار المستقبل، ضلعه الرئيس، إلى جانب، تيار القوات اللبنانية الذي يقوده خلفاء سمير جعجع، والدروز بقيادة تيمور جنبلاط.
وكان جمال الدمشقي حليفاً طبيعياً للمعسكر الثاني، بحكم موقف حزب الله السلبي من الثورة والأحداث في سوريا، وبحكم علاقة جمال الوطيدة بالعائلة الحاكمة في السعودية، التي استطاع تأسيس تحالفٍ متينٍ معها خلال السنوات التي سبقت محاولة اغتياله.
ومنذ العام 2021، كان جمال على قناعة بمسؤولية حزب الله، ومن ورائه إيران، في دخول مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية"، "داعش"، إلى دمشق. في ذلك العام، كان جمال ما يزال يتحرى خطواته الأولى في عالم النفوذ الخفي وراء الكواليس في العاصمة اللبنانية بيروت. وكانت ثروته حينها قد تجاوزت الـ 150 مليار دولار.. وكان يلقى الكثير من الترحاب من السعوديين والقطريين، وأيضاً، الإماراتيين.. وكذلك، من شخصيات وقوى غربية، كانت تأمل أن يشكّل الرجل، الذي تربع حديثاً على عرش أثرى الأثرياء في العالم، لاعباً فاعلاً في المشهد السوري، بصورة تساعد على إعادة لملمة الأمور فيه، بعد أن أفلت زمامه عن السيطرة تماماً، وخرج من قبضة معظم اللاعبين الإقليميين والدوليين.
في ذلك العام، 2021، حقق جمال أولى اختراقاته لهيكلية صنع القرار في قيادة حزب الله. كان الحزب يومها قد تردى وضعه، فكثُرت الاختراقات فيه، من مختلف أجهزة المخابرات، كما تفاقمت الصراعات بين أجنحته، وتصاعد التململ في أوساط حاضنته الشعبية، التي لم تعد تتحمل الخسائر البشرية في الحرب العبثية الدائرة في سوريا، والتي أنهكت الجميع.
تذهب تقديرات إلى أن حزب الله خسر حتى ذلك التاريخ أكثر من 20 ألف مقاتل في سوريا، لكن الأهم أن الحزب خسر الكثير من يقين شيعة لبنان به، حتى وصل الأمر بأمين عام الحزب، أن يطلب من المرشد الجديد لإيران، السماح لحزب الله بالانسحاب من سوريا.
قبيل ذلك، حين رحِل علي خامنئي، مرشد الثورة الإسلامية في إيران، ورجلها القوي، كانت الصراعات على أشُدها في أوساط أقطاب الحكم في طهران. لكن القُطب الأكثر تأثيراً وقوة، كان يخشى من تفاقم تأثير مناوئيه. كانت النخبة التي تدير "الحرس الثوري"، و"الباسيج"، والتي تؤسس نفوذها المالي والسياسي على القوة العسكرية والأمنية لهذين الجهازين، تستشعر خطورة وضعها، مع تصاعد قوة ونفوذ الإصلاحيين.
فمنذ إخماد المظاهرات التي اندلعت في إيران نهاية العام 2017، تفاقمت الضغوط السياسية والأمنية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية، على النظام الإيراني.. وتلمست مواقع صنع القرار في طهران، مؤشرات جليّة تؤكد ارتفاع وتيرة الاستياء لدى شريحة واسعة من الإيرانيين، جراء أداء النخبة المحافظة الحاكمة فعلياً للبلاد.. شريحة كانت تأمل أن يقود الاتفاق النووي بين الغرب وإيران إلى نتائج إيجابية، تنعكس على الاقتصاد الإيراني، بصورة تسمح بالانفتاح على استثمارات غربية ضخمة. وهو أمر كانت مؤشراته الأولى قد بدأت، قبل أن يعكس الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، دفة الأمور باتجاه العداء من جديد مع الإيرانيين. ورغم أن هذا العداء بقي بارداً، دون مواجهات مباشرة، إلا أنه أثّر سلباً على انفتاح الاقتصاد الإيراني على العالم، بصورة جعلت النتائج الإيجابية المأمولة للاتفاق النووي، شبه معدومة. وقد حمّل الكثير من الإيرانيين مسؤولية ذلك للحكام الحقيقيين للبلاد، الذين يشنون حروباً مكثّفة في أكثر من زاوية في العالم العربي، بصورة تستجلب العداء لإيران في المنطقة، وحول العالم.
وتدريجياً، وجدت النخبة المحافظة، خاصة تلك المرتبطة بالحرس الثوري والباسيج، أنها في خطر. بعض رموزها ترجم ذلك بأن "الثورة الإسلامية ومبادئها" في خطر، فيما كانت الحقيقة أن مصالح تلك النخبة هي التي كانت في خطر،.. مصالح تأسست في سنوات الانغلاق، وانتعشت تحت ستار شعارات الصراع مع الغرب، و"الموت لإسرائيل"، عبر مافيات احترفت استغلال العقوبات، والاستفادة من نفوذها في الأوساط العسكرية والأمنية للحرس الثوري والباسيج، المقربة من المرشد الراحل، علي خامنئي.
كل ذلك أسّس لدى النخبة المذكورة قناعة بأن تحدّي خلافة خامنئي هو التحدي الحاسم بالنسبة لها، والذي إن لم تتصدَ له كما يجب، فإن على مصالحها ونفوذها، السلام.
فكان أن بدأت الضغوط لتجهيز خليفةٍ لـ علي خامنئي، مقرّبٍ من أوساطها. وكان أن خضعت القوى السياسية الأخرى في إيران لرغبة النخبة تلك، خشية الصدام معها، وجرّ البلد بأكملها إلى صراع قد يكون دامياً، خاصة أن تلك النُخبة تُحكم السيطرة على أقوى المؤسسات العسكرية والأمنية في البلاد، ولها أخطبوط مُعقّد من المصالح الاقتصادية والمالية المرتبطة بتلك المؤسسات.
وبالفعل، تربّع الرجل المُختار، بعيد رحيل خامنئي، على قمة هرم السلطة في طهران.. واستطاع تحقيق توليفة معقولة من الحلول الوسط بين النخب المتصارعة، بما يؤمن استقرار البلاد. وكان التورط في المستنقع السوري أولى التحديات التي واجهها، خارجياً.
في العام 2021، وفي زيارة سرّية، صارح أمين عام حزب الله، مرشد إيران الجديد، بحقيقة الوضع في جنوب لبنان:
"نخشى أن تفلت الأمور من سيطرتنا.. الناس ما عادوا قادرين على التحمّل".
وعقّب أمين حزب الله بعبارة ضغط فيها على مخارج الحروف لديه، كي تكون أكثر وضوحاً وتأثيراً على المرشد:
"يقين شيعة لبنان بعقيدتنا، في خطر".
لم يكن المرشد بحاجة لهذه الصراحة الفجّة من أمين عام حزب الله، كي يُدرك مدى خطورة الموقف،.. فهو يعلم ما هو أخطر من ذلك.. يعلم أن يقين شيعة إيران أنفسهم، في العقيدة التي أطلقها مفجّر "ثورتها الإسلامية"، الخميني.. بات في خطر.
فقناعات الإيرانيين، خاصة لدى جيل الشباب، أخذت تتبدل بسرعة. وبدأوا يشككون في صوابية النهج الصدامي الذي تبناه الخميني، ومن بعده خليفته، خامنئي، مع الغرب. نهجٌ أحياهم في ضيق معيشي، ولم يحقق أياً من شعاراته. فلم تنجح إيران في محو إسرائيل من الخارطة، بل على العكس، رتبت معها العديد من التسويات غير المعلنة في لبنان وسوريا، وحتى في غزة. ولم تنجح إيران في تصدير ثورتها إلى جيرانها العرب، فقد استُنزف شيعتهم من كثرة حروبها التي استخدمتهم فيها، حتى علت أصواتهم في نقدها ورفض التبعية لها. ولم تنجح إيران في أي حرب داخلية عربية أوقدتها بغية تعزيز نفوذها الإقليمي، باستثناء جنوب العراق. فوسط العراق وشماله تحوّل إلى "فيتنام" يلتهم شباب الشيعة العراقيين لأكثر من ست سنوات من الحرب مع "داعش"، التي كلما أُطفئت نارها، اتقدت من جديد. وفي لبنان، كثُرت الانشقاقات الصغيرة عن حزب الله، وارتفع صوت شريكه الشيعي المُقرّب، حركة أمل، في رفض تورطه العبثي في سوريا. أما في الخليج، فنالت الحملات العنيفة لقوى الأمن السعودية والبحرينية من عزيمة الشيعة في هذين البلدين، لينتكسوا على أعقابهم نحو العقيدة التي لطالما آمنوا بها، وهي انتظار المهدي دون حراك، بدل التحضير لظهوره. أما في اليمن، فاستطاعت السعودية فصم عُرى التحالف بين خلفاء علي عبد الله صالح والحوثيين، بعد مقتل الأول، مما أضعف الحوثيين وجعلهم فريسة لحرب استنزاف مؤلمة شارك فيها معظم شركائهم اليمنيين السابقين، فأُنهكوا ووقّعوا هدنة، خرجوا بموجبها من صنعاء، وعادوا إلى مربعهم الجغرافي المُعتاد في الشمال اليمني.
أما سوريا، فكانت الثقب الأسود، الذي امتص خيرة شباب الشيعة العراقيين واللبنانيين وحتى بعض الإيرانيين، ولم تعد إيران، ولا أتباعها من شيعة العرب، قادرين على تحمل المزيد من الاستنزاف فيها، بعد أن قفز الروس من السفينة الغارقة للنظام السوري.
أيقن الروس أن الغرب، وتحديداً، الأمريكيون، يريدون لهم أن يغرقوا في أوحال المستنقع السوري. وبعد 4 سنوات من تورطهم الذي جرّ عليهم خسائر اقتصادية وبشرية، لم يقابلها أي جدوى حقيقية، قرر الروس الانسحاب من سوريا، قبل فوات الأوان. وكان ذلك عام 2019.
كانت الصدمة كبيرة على الإيرانيين، إذ باتوا وحيدين في المستنقع السوري، فيما بدا أن واشنطن تريد إطالة الأزمة أكثر فأكثر، إلى أن ينهار الإيرانيون أيضاً.
هذه النكسات الجيوستراتيجية لإيران، مع تدهور الوضع المعيشي للإيرانيين، نال من يقين جمهور عريض منهم، بصوابية نهج سدنة "الثورة الإسلامية". بل ربما نال من اليقين بنهج "ولاية الفقيه" الذي أسّس عليه الخميني حكمه، وحكم خلفائه. وبدأت الارتدادات تصبح علنية في أوساط قيادات فكرية ودينية شيعية نحو الفكر التقليدي للشيعة الاثني عشرية. وبدأت نظرية ولاية الفقيه الخمينية التي تقول أن للفقيه ولاية على الفقه ذاته، "ويستطيع أن يغيّر نصوص الشريعة وينسفها ويكتب مكانها شرعاً جديداً"، تتعرّض لهجوم شديد وانتقادات متصاعدة من رجال دين وعلماء شيعة، إيرانيين وعرب، نادوا بالارتداد مرة أخرى إلى النظرية التقليدية القديمة لـ "ولاية الفقيه"، التي تقول أن "الفقيه مفسّر للفقه ومحلل للموقف الشرعي"، لا أكثر.
كان المرشد الجديد لإيران، الذي يُعتبر إحدى المرجعيات العليا لأتباع "ولاية الفقيه الخمينية"، يستشعر الخطر على تلك العقيدة، وهو خطر لا يطال العقيدة وحدها، بل يطال سدنتها أيضاً، وهو في مقدمتهم. سدنة لهم مصالح، مالية وسياسية. كان الخطر جلياً حيالها، يهددها بالانهيار تحت وطأة ارتداد عامة الإيرانيين، والكثير من خاصتهم، عن "الفكر الخميني".
ومما زاد في التهديد الذي طال يقين الشيعة المُتبعين للخمينية، وربما كافة الشيعة الاثني عشرية، هو التناقض الصارخ بين النبوءات الشائعة في الأدبيات الشيعية، والتي تتحدث عن مقدمات ظهور المهدي المنتظر في آخر الزمان، وبين سياسات إيران ومواقفها في سوريا تحديداً.
ويسود في الأدبيات الشيعية المُعتبرة بين عامة الشيعة، أن فتنةً كبرى في الشام تسبق ظهور المهدي المُنتظر.. وكنتيجة للحديث المتكرر من جانب مراجع دينية شيعية بارزة خلال العقد الأول من القرن 21، من بينها حسن نصر الله نفسه، عن قرب ظهور المهدي، فسّر معظم عوام الشيعة، والكثير من خاصتهم ومفكريهم، الأحداث في سوريا التي بدأت عام 2011، والتهديد الذي طال بشار الأسد، على أنها العلامة التي تسبق ظهور "السفياني"، الرجل الذي يشتهر في المرويات الشيعية بكثرة جرائمه بحق الشيعة، وبحملته العسكرية ضد المهدي، فور ظهوره في مكة، حيث يتعرض جيش السفياني لخسف أثناء عبوره قرب المدينة المنورة.
هذا الاعتقاد الذي راج بين عوام الشيعة بكثافة، جعل سقوط نظام الأسد المقدمة التي ستسبق ظهور السفياني، ومن ثم، المهدي المُنتظر. الأمر الذي أثار استياء الكثير من الشيعة، حتى من جمهور حزب الله، حيال دعم نظام الأسد ومساعدته على الصمود.
وساد بين الشيعة حتى من أتباع "الخمينية"، تساؤلات عن مبررات إطالة أمد صمود نظام الأسد في دمشق، ما دام سقوطه يعني ظهور العلامة الأخيرة، "السفياني"، التي تسبق مباشرةً ظهور المهدي المُنتظر، الذي يشكل فعلياً الحجر الأساس في بنيان كامل العقيدة الشيعية الاثني عشرية.
لكن الطامة الشيعية في سوريا لم تتوقف عند ما سبق، إذ تصاعدت التوترات بين العلويين والمقاتلين الشيعة على الأراضي السورية. فالعلويون استشعروا خطر التمدد الشيعي في أرضهم، ولم يعودوا يتحملون الفوقية التي يتعامل بها مقاتلو الميليشيات الشيعية المجلوبة لإنقاذهم من "ثورة السُنة"، حسب ظنهم.
أما مقاتلو الشيعة، فكانوا مستائين من وضعهم في خطوط المواجهة الأمامية مع "الجهاديين السُنة" ومقاتلي "داعش"، فيما مقاتلو العلويين يديرون حواجز المدن والبلدات ويحصدون من خلالها الأموال عبر ابتزاز الأهالي والسكان، وكأن الحرب تحوّلت إلى تجارة بالنسبة لهم. أما حينما يُلقون في خطوط المواجهة الأمامية، يبيعون مواقع "الرباط" لفصائل مسلحة "سُنية" في صفقات سرّية، وفي أفضل الأحوال، يولون الأدبار في أول مواجهة جدّية في الميدان، ويكون الحمل كله على كاهل مقاتلي الشيعة اللبنانيين والعراقيين والأفغان، وأيضاً، الإيرانيون.
وأخيراً، وصل الاستياء الإيراني ذروته من نظام بشار الأسد، بعيد الانسحاب الروسي عام 2019، حيث بات كامل ثقل المواجهة مع "السُنة" على كاهل الإيراني والمقاتلين الشيعة. وحينما تمكن الإيرانيون من الوصول إلى اتفاق مبدئي مع واشنطن، بعد سلسلة طويلة من المفاوضات السرّية، ينص على تنحية الأسد، وترحيله خارج البلاد، مع عائلته، مقابل ضمان نفوذ كبير لإيران داخل نظام الحكم الجديد، عبر شخصيات محسوبة عليها.. اكتشف الإيرانيون أن الأسد يفاوض الإسرائيليين سرّاً على أن يقوم بالانسحاب المفاجئ من دمشق نحو حمص، لتأسيس دويلة علوية مستقلة هناك، وكان الأسد يأمل أن يسوّق الإسرائيليون ذلك السيناريو لدى الأمريكيين، كي لا يفقد كرسي الحكم نهائياً، عبر اتفاق إيراني – أمريكي.
حينها وصل الاستياء الإيراني من بشار الأسد ذروته، فالرجل لعب على الحبال أكثر من مرة، بينهم وبين الروس والأمريكيين، وحتى في اتصالات أجراها مع دول خليجية. وبعد كل ما قدمته إيران لضمان صموده، لا يأبه الأسد إلا لكرسي الحكم فقط، حتى لو على حساب تقسيم بلده، والأهم، حسب المنظور الإيراني، على حساب الدم الشيعي المهدور.
كان الإيرانيون غير مستعدين لسيناريو التقسيم هذا، إذ ما الفائدة التي سيجنوها من دويلة علوية تضم حمص والساحل، وتفقد دمشق وجنوب سوريا والقلمون.. كيف سيضمنون التواصل البري بين عواصم "هلالهم"، من طهران حتى بيروت. وكيف سيُؤمّنون استمرارية الدعم اللوجستي البرّي لحزب الله، إذا فقدوا التواصل البرّي بين بغداد ووسط سوريا.. كما أن سيناريو التقسيم كان يعني خسارتهم للحدود مع إسرائيل، التي تُمثّل بالنسبة لهم ورقة هامة جداً، يعني فقدانها، أن لا قيمة استراتيجية للدويلة العلوية بالنسبة لهم، حينها.. فالحدود مع إسرائيل ورقة قوة تريد إيران الاحتفاظ بها.. فمن يملك ورقة أمن إسرائيل، يملك الاستقرار والأمن لحكمه من أي مؤامرات غربية..
وبالفعل، اكتشف الإيرانيون أن إسرائيل تضغط على واشنطن للتفاهم مع الأسد، وعدم ترك منطقة دمشق وجنوبها، وصولاً إلى حدود الجولان، في قبضة الإيرانيين أو القوى المحسوبة عليهم.. وكانت إسرائيل على ما يبدو، تراهن على التفاهم مع فصائل معارضة استقر لها الأمر في درعا، تحت مظلة اتفاق خفض توتر روسي – أمريكي.. كانت إسرائيل تراهن على هذه الفصائل كي تتقدم وتستولي على دمشق حال انسحاب الأسد منها.. وكانت إسرائيل تُجري مفاوضات سرّية مع الأردن ودول خليجية لضمان ضغطها على تلك الفصائل كي لا توجّه بندقيتها نحو الإسرائيلي.. وكان الإسرائيليون يعتقدون أن انسحاب الأسد من دمشق إلى حمص، سيدفع الفصائل السُنية إلى اللحاق به، وستستمر المقتلة بين السوريين، بعضهم مع بعض، حيث يمكن لإسرائيل الاطمئنان إلى أن اهتراء المجتمع السوري، مستمر..
كل تلك المقدمات قادت مرشد إيران الجديد، إلى الاقتناع بضرورة إيجاد حل سريع لأمرين، الاستنزاف المستمر لمقاتلي الشيعة في سوريا، وتفاقم التهديد الذي يطال إيمان العوام والخاصة من الشيعة بعقيدتهم، خاصة من أتباع الخمينية.
كما أن المرشد الجديد كان يريد الانتقام من نظام الأسد، ومن الأمريكيين والإسرائيليين، الذين تلاعبوا بالإيرانيين طويلاً وورطوهم قرابة العقد في الحرب السورية بصورة استنزفتهم تماماً.. وهددت حتى الركائز العقَدية لحكمهم.. فكان أن قرر المرشد الإيراني قلب الطاولة على الجميع، وخلط الأوراق..
لذا، حينما تجرأ أمين عام حزب الله، على مصارحة "إمامه"، المرشد الجديد، بأن يقين شيعة لبنان في خطر، لم يكن المرشد مُتفاجئاً، ولم يُبدِ أي استياء من جرأة أمين عام حزب الله، التابع لإيران. لكن من تفاجأ يومها، كان أمين عام الحزب، إذ صعقه المرشد حينما قال له بإيجاز: "سننسحب من دمشق".
ذلك القرار الذي اتخذه المرشد في طهران، وبدأت التحضيرات من حزب الله لتنفيذه، وصل سرّاً إلى جمال الدمشقي عبر شخصية نافذة مُقرّبة من دوائر صنع القرار في حزب الله.. شخصية كان جمال قد اشتراها بالمال، وكانت قد فقدت يقينها وقناعتها بصوابية المُعتقد الذي يقوم عليه حزب الله.. لكن جمال لم يصدّق حينها ذلك الخبر.. ورغم أنه لم يقتنع يومها بأن الإيرانيين سيتركون الباب مفتوحاً لـ "داعش"، كي تدخل دمشق.. إلا أنه، على سبيل الاحتياط، أعلم معظم أقاربه وأصدقائه المُقرّبين، من القلّة المُتبقية في دمشق، بوجوب مغادرتها سريعاً.. وبالفعل، بعد أسابيع من مغادرة أقارب وأصدقاء جمال للعاصمة دمشق، فُوجئ سكانها بانسحاب الميليشيات الشيعية بالتزامن مع اجتياح سريع وخاطف، قام به مقاتلو "داعش" القادمين من الصحراء، والذين دخلوا دمشق من بوابتها الجنوبية تحديداً، عبر مخيم اليرموك والحجر الأسود.
دخل مقاتلو "داعش" دمشق بالآلاف، وكأن قيادتهم في حالة تنسيق مُسبق مع الإيرانيين.. وفرّ معظم القادة العلويين ممن أدركوا ما يحدث في وقت مُبكر، بينما كان مصير آلاف الضباط والجنود ممن تفاجئوا كالسكان، القتل بالرصاص، أو الذبح في حال الاستسلام.
المقاتلون اجتاحوا بسرعة كبيرة العاصمة، وخلال أقل من 24 ساعة، وقبل أن يفهم أحد داخل دمشق، أو خارجها، ما الذي يحدث، كان مقاتلو "داعش" يقتحمون "قصر الشعب"..
وخلال سبعة أيام، اختلط "الحابل بالنابل" في دمشق، وانقطعت وسائل الاتصال جميعها مع السكان في الداخل، وكانت الأنباء التي تصل إلى الخارج شحيحة جداً، لكنها على قلتها، كانت تتحدث عن مشاهد مُروعة في دمشق.. وفي اليوم السابع للاجتياح "الداعشي"، لـ دمشق، كان بضعة مدنيين قد استطاعوا الفرار، تمكنت كاميرا قناة الجزيرة القطرية من رصد أحدهم في منطقة قريبة على أوتستراد دمشق – السويداء، كان عجوز يناهز السبعين، وعلائم الذهول تكسو سحنته، قال لهم بكلمات لاهثة وهو يسير سريعاً مبتعداً عن الكاميرا، "الدم صار للرِكب بالربوة"..
يومها تذكر كثير من السوريين ما كان يتناقلوه أجدادهم من أقاويل عن فتنة ستشهدها دمشق، سيصبح فيها "الدم للرِكب" في الربوة.. والربوة هي فالق جبلي يمر فيه طريق تحيطه الأشجار، وعلى الجبلين المحيطين به، يتربع قصران، "قصر الشعب" المُطل على المزة، وهو الأعلى، وقصر الضيافة أو "تشرين" المُطل على المالكي، وهو الأقل ارتفاعاً.
عُرف لاحقاً أن المقاتلين العلويين انهاروا بسرعة جراء الصدمة، وولوا الأدبار، وكان "الاجتياح الداعشي"، مدروساً ومخططاً له، فيما فرغت كل المنشآت الإيرانية من موظفيها، واختفى معظم الشيعة من مدنيين ومقاتلين، من دمشق، قبيل الاجتياح بساعات..
حدث ذلك الاجتياح في مطلع صيف العام 2021.. وذاب نظام الأسد، واختفت معظم شخصياته، وتضاربت الأنباء حول مصائرهم..
ذُهل الناس في أصقاع الأرض،.. وفيما كان الرعب يستولي على معظمهم.. كان شعور بالتشفي، وآخر بالإنصاف، يستولي على كثير من السوريين.. وكانت تلك بداية القبول بسلطة "داعش" من جانب شرائح واسعة منهم.. إما خوفاً من الذبح، أو تسليماً بالأمر الواقع، أو، والأخيرة كانت لقطاع ملحوظ منهم، امتناناً لـ "داعش" التي أشفت غليل صدورهم جراء الجرائم التي ارتُكبت بحقهم لأكثر من عقد من الزمان.. إذ شهدوا بأعينهم جرائم مماثلة تُرتكب بالمجرمين من المحسوبين على نظام الأسد، بعضها صُوّر وبُث في فيديوهات على الهواء مباشرةً.
يتبع في الفصل الخامس..
مواد ذات صلة:
عائلة جمال الدمشقي - (الفصل الثالث من "الترليونير السوري")
اللقاء مع اليهودي الأمريكي – (الفصل الثاني من "الترليونير السوري")
من شرفة القصر بالمالكي – (الفصل الأول من "الترليونير السوري")
التعليق