من أين يعيش المواطن السوري ..؟!

في المرات الأخيرة، التي صرت أتواصل فيها مع أحد من الأهل أو الأصدقاء في داخل سوريا، أصبح يلفت انتباهي أمران: الأول، أنه لم تعد هناك فوارق في الحياة المعيشية بين من يسكن في المناطق المحررة أو تلك التي تخضع لسيطرة النظام، كما كانت في السابق. وهو الأمر الذي راهن عليه النظام كثيرا، من أجل أن يكون الفارق بينه وبين المعارضة كالفارق بين الجنة والنار.. لكن الحال تغير كثيرا مع فقدان النظام لأغلب موارده الاقتصادية، واضطراره لتحميل أزمته للمواطنين.

أما الأمر الثاني، إذا كان النظام لايزال يوفر الحد الأدنى للمواطنين الذين يعيشون في كنفه.. فمن أين يعيش أبناء المناطق المحررة ..؟، كيف استطاع هؤلاء أن ينظموا أمور حياتهم اليومية وأن يتكيفوا مع الحرمان من أبسط مقومات الحياة المعيشية ..؟، هذا عدا عن المخاطر التي يتعرضون لها جراء قصف النظام لمناطقهم ..!!

مثلا، حسب ما يتم تناقله من أسعار لبعض المواد الأساسية وبالذات المواد الغذائية والمحروقات، تشير إلى أن تكلفة معيشة أسرة مكونة من خمسة أفراد لا تقل عن 100 ألف ليرة سورية في الشهر.. وهو مبلغ لا يزال صعبا الحصول عليه حتى مع انهيار الليرة السورية .. فإذا كان من يعيش في مناطق النظام هو موظف أو يستطيع العمل ويحاول أن يؤمن جزءا من هذا المبلغ .. فما هي الموارد التي يحصل عليها من يعيش في المناطق المحررة، وكيف يستطيع أن يؤمن مثل هذا المبلغ أو ما يقابله شهريا ..؟

أذكر في بداية خروجي من سوريا إلى الأردن مطلع العام 2012 ، كان أول سؤال يوجهه لي المتصلون من الداخل، من أين وكيف تعيش أنت وأسرتك .. ؟!، وكانت يومها القنوات الفضائية كريمة جدا في تسليط الضوء على من يخرجون من سوريا، وتحاول أن تقدم صورة مأساوية عن حياتهم ومعيشتهم .. غير أني كنت أقول لهؤلاء السائلين: إن ما تعرضه القنوات الفضائية خرافة .. الأمور ليست بهذا السوء. بل أكاد أجزم أن طلائع الخارجين الأوائل من سوريا لقوا رعاية فائقة من قبل المنظمات الانسانية والمجتمع المدني في تلك البلدان، الذين كانوا متعاطفين كثيرا مع أبناء الثورة السورية ..

أعتقد أن الإعلام لعب ولازال يلعب دورا كبيرا في تضخيم النقاط السوداء في المأساة السورية. بينما لا يحاول أن يسلط الضوء على نقاط أخرى أكثر إشراقا وأكثر اتساعا . إنه يبحث حصرا عن الإنسان الذي عض كلبا .. وإذا ما وجده فإنه يحاول أن يعممه . وهو أمر طال تقريبا كل جوانب الثورة السورية.

لقد قادني البحث خلال الفترة الماضية إلى التعرف على نمط حياة المواطن السوري في ظل أصعب أزمة إنسانية يواجهها في حياته.. وأنا هنا لا أزعم أنني على إطلاع بكل التفاصيل اليومية لهذا المواطن. فبدون شك هناك مآسٍ ومناطق ضربها الجوع بكل معنى الكلمة، نتيجة الحصار الذي يفرضه النظام عليها، لكن بنفس الوقت هناك بوادر مجتمع جديد تشكلت. بل أكاد أجزم أن هناك علاقات إنتاجية جديدة تشكلت خلال السنوات الأربع الماضية، وهذه العلاقات سوف تكون عاملا مهما في إعادة بناء الإنسان السوري، وإعمار سوريا.

إن المتتبع لقائمة الأسعار اليومية لبعض السلع والمواد الغذائية، يستنتج أن المواطن السوري لم يعد بوسعه سوى تأمين حاجته من الخبز ودفع تكاليف مواصلاته فقط، قياسا بالدخل الذي يتقاضاه. هذا في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، أما في المناطق المحررة، فقائمة الأسعار تعني أن حتى الخبز لم يعد بمقدور المواطن تأمينه ... فإلى أي حد هذا الكلام دقيق ...؟!

لاشك أن فكرة الجوع، حاول الكثيرون اللعب عليها، ومنهم ناشطون إعلاميون من الثورة، أملا في أن يتدخل المجتمع الدولي من الباب الإنساني هذه المرة ... غير أن من يعرف الشعب السوري، يعرف تماما أن هذا الشعب لا يمكن أن يجوع، وكل محاولات التجويع التي مارسها النظام خلال السنوات الأربع الماضية، لم تزد الشعب السوري إلا إبداعا...

وهنا دعوني أميز وبشدة، بين من يقطنون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وبين المناطق المحررة..إن النظام بدأ يسعى بالفعل لتجويع المواطن الذي يعيش في كنفه، بعد أن ضمن ولاءه وعدم تمرده. بل إن التجويع أصبح أداته الأساسية لاستمرار ربط هذا المواطن به .. ومن هنا تركه لاستغلال تجار الحروب الذين بدؤوا يتحكمون بمعيشته.

وعلى عكس ذلك تماما في المناطق المحررة، حيث نشأت إدارات مدنية من أبناء هذه المناطق، ووجدت نفسها معنية كثيرا في حفظ كرامة مواطنها، بعد كل ما قدمه من تضحيات ومعاناة في سبيل تحقيق حريته وحرية بلده .. هذه الإدارات استطاعت أن تنظم نفسها بعيدا عن أي سلطة مركزية، معتمدة على أبنائها في الخارج ومن الميسورين، الذين آمنوا بالثورة، وأيقنوا أن كل شيء يهون مقابل التخلص من هذا النظام. ولاشك أن هذه الإدارات سوف يستفاد كثيرا من تجربتها في إعادة الحياة للمواطن السوري بعد سقوط النظام.

إن النظام لطالما استخدم لقمة العيش لتطويع المواطن السوري وتركيع المناطق الثائرة، وقد نجح إلى حد كبير في المناطق التي استطاع حصارها، ومن ثم استطاع أن يفرض شروطه عليها مقابل إدخال لقمة العيش لمن يفترض أنهم مواطنوه .. !!، وقد حرص النظام من خلال هذه المصالحات أن يقدم صورة مذلة للمواطن السوري ... أعتقد اليوم أن هذه الصورة لم تعد تتكرر .. ولا تستغربوا أن نشهد في الفترات القادمة هروبا للمواطنين الى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة بحثا عن لقمة العيش بكرامة.. فبينة النظام الاقتصادية تنهار وبشكل متسارع، وهو يحاول أن يقاوم هذا الانهيار من خلال المزيد من الضغط على مواطنيه. بينما الحالة المعيشية في مناطق المعارضة تتحسن باستمرار، وهي أصبحت في العديد من المناطق أفضل بكثير من مناطق النظام. وخصوصا من ناحية الأسعار وتوفر المواد الغذائية بما في ذلك توفر الخدمات.

يبقى الرهان الكبير الذي يجب أن تعمل عليه المعارضة هو حماية المواطنين. وهو يفوق بأهميته أمور الحياة المعيشية. والمتابع لتطورات الأحداث على الساحة الميدانية، لا بد أن يلمس تحركا في هذا الاتجاه، وأن هناك العديد من المناطق في الشمال والجنوب السوري في طريقها لأن تصبح آمنة بالكامل ..

ترك تعليق

التعليق