أهذا زمن الاقتصاد ...؟!

كانت فكرة سقوط الدولة مرعبة للكثيرين، فهي تعني تدمير المؤسسات الإدارية والاقتصادية والبنى التحتية التي تجعل من النظام سلطة .. والمعارضة رغم قناعتها أن النظام لن يترك شيئا قبل رحيله، وأن سقوط الدولة سوف يسرع بدون شك بسقوطه، غير أنها لم تكن راغبة أن يلتصق هذا العار بها على ما يبدو ..

وحتى تهرب المعارضة من الفكرة تماما، راح مفكروها يكتبون عن قناعة: أنه حتى لو سقطت الدولة وانهار اقتصادها، فليس بالضرورة أن يؤدي ذلك إلى سقوط النظام. وهو استنتاج غريب ... فكيف يكون هذا الأمر ..؟!، ما هو تعريف السلطة من وجهة نظرهم ...؟، ما هي قيمة أي نظام بدون أجهزة دولة ... ؟، إذاً لماذا في الاحتجاجات السلمية يلجأون إلى الإضراب والعصيان المدني ...؟،  أليس ذلك شكل من أشكال ضرب وتدمير أجهزة الدولة ..؟، حتى أنه في الأنظمة الديكتاتورية يغدو سقوط الدولة شرطا أساسيا لسقوط النظام فيها ..

ومهما اختلفنا حول هذه النقطة ، لكن هذه الأنظمة هي من تفرض هذه المعادلة. وهو ما قام به نظام الأسد الذي أعلنها صراحة منذ البداية ، الأسد أو نحرق البلد . فهو كان يقصد تدمير أجهزة الدولة . لأنه يعرف أنه بفعلته هذه ، فإنه يقضي سلفا على أي سلطة يمكن أن تأتي بعده .. فالعراق هذا البلد الغني، لا يزال وبعد أكثر من 10 سنوات على سقوط صدام حسين وأجهزة دولته، يعاني من بناء أجهزة دولة جديدة ... فكيف هو الأمر مع سوريا هذا البلد الفقير بموارده المادية ...؟، لذلك يستميت النظام اليوم كي لا يفقد أجهزة الدولة المتمثلة بمراكز المحافظات والمدن الكبيرة وبالذات الأجهزة الاقتصادية والإدارية فيها، لأنه إذا فقدها سوف يتحول إلى ميلشيا عسكرية، شأنه شأن كل التشكيلات العسكرية التي تتقاتل على الأرض السورية ... فلنكن صريحين: ما يمنح النظام اليوم القوة هو سيطرته على أجهزة الدولة وقدرته على دفع الرواتب للموظفين وتسيير الحياة الاقتصادية ولو بالحد الأدنى للناس. فتصوروا مثلا، أن النظام لايزال يدفع رواتب الموظفين حتى في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة، ليس حبا بهم ولكن هذا جزء من سياسته لربط الناس بأجهزة الدولة التابعة له.

وهذا ما يقوم به تنظيم "الدولة الإسلامية" أيضا في المناطق التي يسيطر عليها .. إنه يحاول أن يقدم نموذج لدولة، ويحاول أن يقدم مؤسسات يلجأ إليها الناس بديلا عن أجهزة النظام، لأن القاعدة الجوهرية في ذلك: من يمول، هو الذي يملك ويوجه ..  حتى أن القرآن الكريم أقرها فيما يخص علاقة الرجل بزوجته عندما قال: "الرجال قوامون على النساء بما أنفقوا".
 
وحدها المعارضة السياسية التي لم تفهم الرسالة أو لم تشأ أن تفهمها. فهي رغم أنها سجلت موقفا نبيلا برفضها المساهمة بتدمير أجهزة الدولة أو أن تكون داعية لهذا الأمر ، إلا أنها لم تستطع أن توجد البديل الطبيعي. وهو البدء ببناء مؤسسات خاصة بها. وحتى عندما طلبت الدول الداعمة للثورة السورية من المعارضة تشكيل حكومة مؤقتة، كان الهدف هو بناء مؤسسات في الداخل وليس توزيع مساعدات وإغاثات فقط . غير أن المعارضة وبعد مرور نحو عامين على تشكيل حكومتها لم تستطع أن تخدم سوى نفسها ... لقد فهمت الأمر على أنه مناصب ورواتب وامتيازات، ولم تقم ببناء ولو فرن خبز واحد في الداخل.

لهذا تراجع الانتماء اليوم للمعارضة السياسية بكافة أشكالها، من إئتلاف وغيره . وتحول انتماء الناس لمن يستطيع أن يوفر لها الحد الأدنى من الحياة المعيشية، بغض النظر عن التوجه الذي تحمله هذه الجهات وبغض النظر عن قناعتها بتوجهها من عدمه..

في مطلع العام 2013 ، التقيت بالدكتور عارف دليلة في جنيف في أحد مؤتمرات المعارضة .. كان الرجل مهموما ومشغولا في صياغة بيان سياسي وهو القادم من خلفية اقتصادية ، ودفع ثمنا لرأيه الاقتصادي وليس السياسي ، عشر سنوات من عمره في سجون النظام ... قلت له يومها: إن موقعك ليس هنا دكتور .. !، نحن بحاجة لمجهودك ولغيرك ، من رجالات الاقتصاد الداعمين للثورة ، في جبهات أخرى ... فقال لي بصوته الرخيم الهادئ : أهذا زمن الاقتصاد ....؟!

أعتقد من هنا بدأت مشكلتنا، عندما تركنا لزعران المعارضة السياسية والمتسلقين على الثورة أن يقرروا كل شيء .. وتخلينا عن مواقعنا التي يجب أن نكون بها.

ترك تعليق

التعليق