دار إيواء في الريحانية تهتم بمن "سبقتهم أطرافهم إلى الجنة"

محمود طفل لاجىء من جبل الزاوية -9 سنوات- في تركيا، أصيب بشظايا برميل متفجر حينما كان يلعب مع أخته أمام منزله في بلدته "كفر عويد"، مما أدى لبتر ساقه اليمنى. محمود هو واحد من نزلاء "دار إيواء من سبقتهم أطرافهم إلى الجنة" في مدينة الريحانية التركية، حيث يحاول نزلاء هذا الدار التغلب على مصاعب الإعاقة والحياة معاً.


 وتأوي هذه المؤسسة الخيرية، غير الربحية، المصابين ببتر في أطرافهم، وتقدم لهم الإقامة الفندقية بما فيها الملبس والمأكل، وتعمل الدار على توفير البيئة المناسبة للحياة الكريمة لمصابي الحرب ومنهم فاقدي الأطراف. ووصل عدد المقيمين في الدار إلى (٢١) مقيماً منهم من بترت ساقاه، ومنهم من بترت ساقه أو يده.


وبحسب ما يقول مؤسس الدار والمشرف العام عليها، أبو مسلّم لـ "اقتصاد": "الهدف من التركيز على هذه الشريحة من مصابي الحرب هو الاهتمام بهم ورعايتهم وإيوائهم والعمل على إخراجهم من السجن الذي سجنوا أنفسهم فيه طوعياً، لذلك نحاول جاهدين مساعدتهم في التغلب على صعوبات الاندماج بالمجتمع والتأثيرات النفسية للإعاقة المستجدة في حياتهم".
 

ويسترجع أبو مسلّم صورة كانت السبب في اندفاعه لخدمة هذه الفئة من مصابي الحرب السورية: "بعد أن أفرج حافظ الأسد عن شقيقي الأكبر بعد اعتقال دام ثلاثة عشر عاماً كان بساق واحدة، لأنهم أطلقوا عليه النار أثناء مداهمتهم لبيته ليعتقلوه فأصابوه في ساقه"، ويردف أبو مسلّم: "بدلاً من نقله إلى المستشفى لإخراج الرصاصة من ساقه نقلوه إلى أقبيتهم المعتمة ليعذبوه ويتركوه مضرجاً بدمائه فوق الأقذار مما أدى إلى إصابته بـ"الغرغرينا" وأدى تالياً إلى بتر ساقه، وعاش ثلاثة عشر عاماً في معتقل تدمر سيئ الصيت بساقٍ واحدة، وكنت كلما رأيته بساق واحدة أتذكر جرائم الأسد بحق شعبه".


بعد اندلاع الثورة واشتعال نار الحرب لجأ "أبو مسلّم" إلى مدينة الريحانية التركية، وهناك-كما يقول- رأى أعداداً كبيرة من المبتورين، منهم من بترت ساقه في المعارك، ومنهم بالبراميل، ويضيف: "شاهدت أحدهم على كرسيه المتحرك يطلب المساعدة، ويمد يده في ظهيرة أحد الأيام، وفي المساء شاهدت مبتوراً آخر يطلب المساعدة أيضاً".
 
دفاتر السماء

بعد أن عاد أبو مسلّم إلى منزله بدأ يفكر بحال هؤلاء متذكراً حال شقيقه فخطرت بذهنه فكرة تأسيس دار لإيوائهم وتلبية احتياجاتهم المادية والنفسية يقول: "عكفت على دراسة المشروع لمدة ثلاثة أشهر، كنت خلالها أذهب الى أماكن تواجد بعضهم في الحدائق العامة، وأذهب إلى قسم صناعة الأطراف الصناعية، وأقابلهم وأدرس حالاتهم وأتحدث معهم عن قرب". ويردف محدثنا: "بعد أن انتهيت من دراسة المشروع طلبت من صديق عزيز يجيد التدوين على الكمبيوتر، نقل الدراسة من الورق-حيث وسيلتنا نحن الكبار- إلى الكمبيوتر، وبتشجيع ودعم من أبنائي وأبناء أخوتي نقلت هذه الفكرة إلى أرض الواقع مع العلم –كما يقول- لم أتلق قرشاً واحداً من أي جهة حزبية كانت أو جهادية أو ثورية، بل اعتمدت على توفيق الله وعلى نفسي وأخوتي وأبنائهم وأبنائي، وصديق واحد يرفض كتابة اسمه لأنه يريد أن يكتب اسمه في دفاتر السماء وليس على دفاتر الأرض".


تضم "دار إيواء من سبقتهم أطرافهم إلى الجنة" اليوم ثمانية عشرة شخصاً مبتوري الأطراف من بينهم اثنان مبتوري الساقين، أما الآخرون فهم متنوعو الإعاقة، إما في الساق وإما في اليد، والقسم الأكبر من نزلاء الدار– بحسب مشرفها العام- دائمي الإقامة في الدار، وآخرون يقيمون بشكل مؤقت، ريثما يتم أخذ مقاسات لأطرافهم وتدريبهم عليها في قسم الأطراف الصناعية القريب من الدار، ثم يعودون إلى أماكن إقامتهم.
 

وتقدم الدار لنزلائها مجاناً، السكن المريح في منطقه سياحية هي (منطقة البركة) القريبة من باب الهوى، حيث "الهواء النظيف النقي" كما يقول محدثنا– إلى جانب الطعام والشراب والملبس لمن لا لباس عنده، وحتى حلاقة الشعر لمن ليس معه نقود نهائياً، علماً أن الكثير من النزلاء يزورهم ذووهم وأقاربهم ويعطونهم "مصروف الجيب".

دورة في اللغة التركية

يعمل مشرفو الدار على تأهيل مبتوري الأطراف نفسياً ودمجهم في المجتمع، وفي هذا السياق يوضح "أبو مسلًم" أن الدار "أقامت لنزلائها سوقاً صغيرة لبيع الخضار والفواكه بنسبة ربح يسيرة تعود لهم، والهدف من ذلك –كما يقول– إشغال وقت المعوقين، وتعليمهم مهنة البيع والشراء". ويلمح مدير الدار إلى أنه اتفق مع أستاذ في اللغة التركية لإقامة دورة للنزلاء لثلاثة أيام في الأسبوع.

ولدى سؤاله فيما إذا كان قد تقدم بفكرة مشروعه للحكومة السورية المؤقتة أو الائتلاف السوري، أجاب أبو مسلّم بانفعال: "عما تتحدث يا صديقي فهؤلاء في وادٍ والعمل الإنساني والجهادي والثوري في وادٍ آخر". وأضاف محدثنا بحدة وكأن السؤال نكأ جراحه: "قبل هذا السؤال أود أن أسألك أنا: دلني على أي مشروع إنساني قاموا به، وهل لديهم فصيل مقاتل على الأرض، وهل قدم أحدهم أحد أبنائه لينضم إلى صفوف المجاهدين أو الثوار أو ليقوم بإسعاف الجرحى والمبتورين من المعركة إلى المستشفيات الميدانية، هل قدم واحد منهم أحد أولاده شهيداً في المعركة، والسوريون يقدمون مئات آلاف من الشهداء".
 
وتمنى مؤسس الدار من المنظمات الإغاثية والإنسانية الاهتمام بالمبتورين المتزوجين المقيمين في شقق مستأجرة وتابع: "بعضهم تواصل معي وطلب المساعدة، ولكنني اعتذرت منهم لأنني تخصصت بإيواء العزباء من المبتورين وبعض المتزوجين الذين لا يوجد لديهم المال ليأتوا بعائلاتهم إلى تركيا ويستأجروا سكناً ليلموا شملهم تحت سقف واحد".

وأهاب محدثنا بالجهات الإغاثية أن تولي هذه الشريحة من المبتورين الاهتمام المطلوب، سواء منهم من هم بحاجه إلى لم الشمل، أو من كانوا مع عائلاتهم خارج الدار، ولكنهم يتصارعون مع تكاليف الحياة الصعبة وغلاء الأسعار وارتفاع أجور المنازل بشكل يثقل كاهلهم.

ترك تعليق

التعليق