دمشق...بين مترو الأنفاق ومترو المعارضة

أن تحظى باتصال مع أحد السوريين الذي يعيشون في دمشق ويبوح لك عن أوجاع الناس بمنتهى "الرياحة"، يشبه كمن يتحدث مع شخص أثري عفا عنه الزمان وأكل الدهر عليه وشرب.

فالسوري الذي تريد أن تحدثه في الداخل عبر الأنترنت، ومهما كانت درجة ثقافته، لديه اعتقاد أن النظام يملك أجهزة تلتقط ذبذبات الصوت المنطلقة في الهواء وتحليلها ومعرفة مصدرها وهوية قائلها.

"منار"، هو صديق وصحفي يعمل في إحدى وسائل الاعلام بدمشق، تربطني به علاقة جيدة، لكن في كل المرات التي كنا نتحدث فيها لم يكن يتجاوز حوارنا السلامات والسؤال عن الصحة، وتنتهي المكالمة بعد ثلاث دقائق على أبعد تقدير. في هذه المرة هو من اختار الاتصال، أو كما بدأ مكالمته: "رح انفجر "...!!

بدأ كلامه ضاحكاً: "عم أقرأ تصريح لمسؤول كبير في وزارة النقل، يقول فيه أنهم انتهوا من الدراسات النهائية مع شركة صينية لتنفيذ مترو دمشق بتكلفة 500 مليون دولار". ويتابع: "المضحك أكثر أن المترو سيمر فقط في المناطق الثائرة حول دمشق من القدم إلى الحجر الأسود والمخيم وصولاً الى برزة، وخط آخر ينطلق من القدم الى داريا ومن ثم المعضمية، والمصيبة أن شركة صينية هي التي ستنفذ المشروع"....يضحك: "يا رجل كأني علي مملوك هو اللي عامل هالتصريح". يسألني: "بشرفك مو شي بضحك ...؟!، هذه المناطق من ثلاث سنوات لا يوجد بها خطوط ميكرو كافية، ويتحدثون عن مترو...؟!". ويستطرد: "المشكلة السورية كلها ملخصة في هذا الخبر برأيي...!!، منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أقرأ أخباراً وأبحاثاً ودراسات عن مترو دمشق، وآخر ما أعرفه عن الموضوع أنه طُوي لأسباب فنية متعلقة بطبيعة التربة والصخور التي تعتليها بيوت العاصمة، حيث أن الشركة الفرنسية التي أجرت الدراسات سابقاً أكدت أنه إذا قررت دمشق أن تنفذ مترو فلن يكون هناك دمشق بعد الآن...يبدو أن للصين أقوالاً أخرى، أو علي مملوك... !!".

ويتسائل: "يا رجل، كيف استطاعوا أن يخدعوننا كل هذه السنين ولازالوا..؟!، ألهذا الحد إنساننا جبان وخائف...لقد تدمرت البلد ولازالو مصرين على الكذب، بل ويخططون للمزيد من الدمار وعبر المشاريع التنموية الثورية...".

كنت تواقاً أن أسمع من صديقي شيئاً عن حياة وأوجاع الناس داخل العاصمة، حيث مركز الرعب، وما يعتقد النظام أنه قلعته الأخيرة التي سوف يتمسك بها حتى النهاية..فقال: "كلمات مثل الخوف والجوع والحرمان والقهر والغلاء، باتت عادية لنا ولكم، كونه يتم قرائتها كعناوين غير مرفقة بقصصها الإنسانية..ومع ذلك لا بد من القول أن دمشق مدينة متناقضة، سوف تجد فئة لا تزال محافظة على "سيراناتها" و"الكش والشوي"، وأيضاً سوف تجد المطاعم ومحال الحلويات مكتظة بالزبائن رغم الأسعار "الجهنمية"..وكثيراً ما نتساءل: من أين يأتون بالمصاري...؟، وما داموا يملكون، لماذا لم يهاجروا كما فعل أغلب الميسورين...؟، الكل يا صديقي يعتقد أن من تبقى في دمشق هم الفقراء فقط...لكن هناك الكثير من الميسورين آثروا البقاء إلى جانب الفقراء ليس لكي يقفوا إلى جانبهم، ولكن من أجل أن يزيدوا في فقرهم وقهرهم..".

كنت على الدوام أرى أن هناك شيئاً غامضاً في طبيعة الحياة في المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام...وبالذات الذين يعملون بالمهن الحرة..مثلاً: هل ما زال هناك من يعمل بالدهان والنجارة والحدادة وغيرها من المهن المرتبطة بالبناء...؟، وبالنسبة للوظائف في القطاع الحكومي...كيف تجري الأمور داخل هذه الموسسات، والتي تحولت بحسب ما نسمع إلى مؤسسات أمنية...؟...فقال لي: "المهن الحرة شبه متوقفة، ويقتصر العمل بها على الإصلاح فقط..والغالبية باتوا يصلحون أعطالهم بأيديهم، إلا ما استعصى عليهم..وأما الذين كانوا يعملون بالعتالة، فقد استغل النظام عطالتهم ووظف أغلبهم بالتشبيح..وأما فيما يتعلق بالوظائف الحكومية، تستطيع القول أنه يمكن الحصول على صورة جديدة..."، وأضاف "لقد قام النظام ومنذ نحو عامين بحملة تعزيل واسعة داخل الدوائر الحكومية وبحسب القطاعات وأهميتها بالنسبة له..فمثلاً قطاع الإعلام تحديداً، قام بنقل أغلب المنتمين للمناطق الثائرة إلى مؤسسات أخرى لا علاقة لها بالإعلام، وأغلب العاملين في المؤسسات الإعلامية اليوم هم من طائفة النظام أو من رحم ربي...وهؤلاء أنفسهم يمارس عليهم التشبيح من مرؤوسيهم، رغم أنهم مؤيدون للعظم..."، وأردف "على فكرة، أنتم تعتقدون أن /العلوية تحديداً/ داخل دمشق يعيشون بالنعيم كونهم مؤيدين، غير أن الصورة عكس ذلك تماماً، فالنظام بعد أن وضعهم في فوهة المدفع وجعلهم يوقنون أنه حاميهم الوحيد، صار يعاملهم كالعبيد..وكما تعرف العبيد لا يثورون، كي لا تسألني لماذا لا يعترضون..؟!".
 
سألته: هل تعتقد أنهم مغلوبون على أمرهم..؟، أجاب: "الخيارات أمامهم لم تكن واضحة، وخصوصاً أن النظام منذ البداية عمل على تخويفهم...لذلك لا تستغرب إذا قلت لك أن هناك نماذجاً تستحق الشفقة، ومنهم من هو موجود في الخطوط الأمامية، ويقاتل بمنتهى الإخلاص إلى جانب النظام..".

سألته من جديد: لازلت تواقاً لمعرفة حال موظفي الحكومة، لأنني غادرت البلد منذ نحو ثلاثة سنوات ونصف، وفي تلك الفترة كانت الأوضاع مأساوية، فكيف اليوم..؟، فأجاب: "الموظفون مطلوب منهم منذ بدء الدوام الرسمي وحتى نهايته أن يعبروا بمناسبة وغير مناسبة، عن استهجانهم ورفضهم وشتمهم "للإرهابيين"، وإذا توقف أحدهم يوماً عن الشتم واللعن، فإنه يعرّض نفسه للخطر..حتى مشاعره تخضع للمراقبة..فمثلاً إذا قتل له شخص عزيز وقريب وكان في المعارضة،  يجب أن لا يتعاطف معه..وأن لا يقبل التعازي به..وحتى يستمر بعمله يجب أن يشتمه حتى لو كان القتيل أخاً وابن عم".

وعلى مستوى آخر، يضيف منار: "هناك حالة يأس داخل المؤسسات الحكومية، من أعلى سلطة فيها وصولاً إلى البواب..هيكليتها منهارة تماماً..والكثير من العاملين لديهم إحساس مع نهاية كل شهر أنهم قد لا يستلمون رواتبهم.."، وختم: "باختصار الرؤساء والمرؤوسين، على حد سواء، دائماً لديهم إحساس أن نفق المترو سوف يمر من تحتهم، إن لم يكن مترو النظام، فمترو المعارضة".

ترك تعليق

التعليق