صناعة النسيج في حمص.. غزت العالم قبل "طوفان البعث"

بعد أن هجّر نظام الأسد حرفيي النسيج وهدم مشاغلهم في أحياء باب السباع والورشة في مدينة حمص، بصواريخه ومدافعه وطائراته، عاد ليدعي من خلال محافظه، طلال البرازي، بأنه سيمول معامل النسيج التي تقع بمحاذاة المدرسة الإنجيلية بحي باب السباع، بعد أن ينظف الحي من "جيوب الإرهابيين"، رغم أن هذا النظام، وإلى سنوات قليلة قبل الثورة، كان يحارب أصحاب مهن النسيج في حمص بلقمة عيشهم، ويضيّق عليهم أنفاسهم، من خلال المصادرة والإغلاق حيناً، والضرائب التي كانت تفرضها غرفتا الصناعة والتجارة والاقتصاد والتموين وترهق كاهل أصحاب هذه الورشات حيناً آخر.

وكان جزء كبير من هذه الضرائب يدخل جيوب الكثير من الفاسدين من موظفي وجباة هذه المؤسسات، مما دعا الكثيرين من "النوّالة" إلى هجر هذه المهنة العريقة وتفكيك أنوالهم وبيعها كخردة أو كقطع تبديل، واقتصار من تبقى منهم على صناعة الشاش الطبي المطلوب للمستشفيات والمراكز الطبية أو صناعة الأكفان، وذلك قبل أن يتم احتلال حمص من قبل قوات النظام والمليشيات الموالية له.

 وللمفارقة فإن نظام الأسد يدعي اليوم أنه يشجع صناعة النسيج في مدينة غزت العالم بمنتجاتها قبل أكثر من قرن من الزمن، وشهدت أسواقها عام 1885 أول جمعية اقتصادية مساهمة لصنع منسوجات وطنية تضارع المنسوجات الأجنبية، ودُعيت هذه الجمعية بـ "الجمعية الاقتصادية لتحسين المنتوجات الحمصية"، وسارت هذه الجمعية بخطوات واسعة ونجاح مرموق، حتى كادت منسوجاتها أن تضارع المنسوجات الأوروبية وتفوقها في المتانة والإتقان، قبل أن يطغى "طوفان البعث" على البلاد ويستولي على مقدراتها وخيراتها وصولاً إلى تدميرها.

وفي هذا التحقيق تستعيد "اقتصاد" جوانب من ازدهار مدينة حمص في مجال صناعة النسيج بمختلف أنواعه، حتى باتت هذه المدينة في وقت ما من تاريخها، بمثابة معمل كبير.

ولعل تفنّن أهل حمص في ميدان النسيج والحرائر أمر ليس بجديد عليهم فلقد برع أبناء هذه المدينة منذ عشرات السنين بصنع الديباج والبز والخز والبرود وكانوا يصنعون الأكسية والمسوح.
 
كان النسيج في القديم يعتمد على الخيوط الحريرية الطبيعية والغزول القطنية المستوردة، واشتُهرت مدينة حمص بصناعة الأشغال الحريرية الموشاة بالقصب أو الخيوط الفضية وأقمشة الجوخ والثياب المحلّاة بالجوهر والزبرجد، وتُسمى هذه الصناعة صنعة "القصبجية" أو" الألتونية".

وعلى الرغم من أن الوسائل والأدوات كانت بدائية فقد كان الإنتاج على جانب من المتانة والجمال لا يُبارى، وكان الصوف أو القطن الحمصي يغسل ويُنفش ويمشط ويحلج وينق ثم يمشق ويحاك وينسج، وكانت الأصواف والأقطان تحلج بالقوس والنداف وتغزل بمغازل آلية وكانت تطلق على الأقمشة المصنعة في حمص أسماء كثيرة ومن هذه الأسماء المنير والمعين والمسير والمفوف والمسهم والمعمد والمعرج والمهلهل والمكعب والمطير والمخيل.

(النساج مروان شريط الذي ينتمي لأقدم عائلة زاولت النسيج في حمص)


 واختصت حمص بصنع الشقق الحريرية بأطوال مختلفة وأنسجة متنوعة تصنع منها القنابيز والشالات والزنانير والشملات والصايات الحمصية المميزة والديما وفوط الحمام المقصبة التي تقتنيها العرائس، كما تصنع الكوفيات الحريرية الموشاة بالقصب الفضي. وما تزال حتى الآن تصنع فيها الملاءات والشراشف والبرانس واللحف التي تصنع كلها من الحرير الطبيعي ويتطلب تصنيعها دقة ومهارة فائقتين يصعب تقليدها.

ويقدر عدد الذين كانوا يعملون في هذه الصناعة بـ 10000عامل يتناوبون العمل على 400 نول ويتمركزون في الأحياء المعروفة حالياً باسم باب دريب – باب تدمر –باب السباع – الحميدية – الفاخورة – الزاوية.
 
وكان حرير الملمس يصدر إلى مصر والسودان كما تصدر الحطة المقصبة والسادة إلى الأناضول واليمن والعبي والعقلات الى السعودية. وكان إنتاج حمص من هذا النسيج يقدر بـ 000 10 ليرة ذهبية، ونظراً لرقته فقد كان خير نسيج يلائم لباس أبناء وادي النيل في مناخهم الحار، وقد توقف إنتاجه في حمص عقب النهضة الصناعية للنسيج في القطر المصري بعد عام 1931.

 وهناك صايات "الديما" الحمصية التي كان لها شهرتها في الماضي وقد وصل تسويقها إلى يوغسلافيا واليونان عبر الأناضول، وكذلك إلى ليبيا والسودان عبر لبنان وفلسطين، وإلى سنغافورة واليمن.


 ولفوط الحمام المقصبة أنوالها الخاصة (نول أبو حدفة) الذي يُنقل مكوكه باليد ليتحكم صانعه بالتزيينات المقصبة الخاصة التي يود نسجها مع الفوطة، ويورد الدكتور عماد الدين الموصلي في كتابه (ربوع محافظة حمص) إحصائيات تظهر وضع صناعة النسيج في السنوات الأولى بعد الاستقلال في محافظة حمص وفق ما يلي:

عدد الأنوال   نوع نسيجها   عدد الأنوال   نوع نسيجها
100         بيجامات        150       حطة
100         بوبلين          100      شراشف
200         خام           1500     صايات
350         فرش           500     بسط،عبي، سجاد، شق شعر

وتبين هذه الإحصائيات أن نصف عدد الأنوال تماماً كان يعمل قبل أكثر من نصف قرن في صناعة الصايات، وحوالي الربع في صناعة الحطات "الحطايط" والبسط والعبي والسجاد وشق الشعر، وهي الأنسجة التقليدية التي كان يحتاجها أبناء الريف والبدو في المحافظة. وتدل الدراسات التي ترجع إلى فترة ما بعد الاستقلال مباشرة أيضاً، أن قرية (الزارة) التي تبعد 10 كم عن تلكلخ وما جاورها، كانت أشبه بمعمل للسجاد فيه أكثر من 200 نول يدوي وينتج حوالي 6000 قطعة شهرياً تعمل فيها أكثر من 400 عاملة، علماً بأن إنتاج العمل اليومي لا يزيد عن نصف متر، كما أن صناعة البسط كانت مزدهرة في الريف وبخاصة في القريتين وصدد وفيروزة وتدمر.
 
       
       
       
       
       

ترك تعليق

التعليق