اقتصاديات.. قذائف حمضيات الساحل

لم يعرف الإعلام المحلي في تاريخه قضية كانت تستنفره وتقض مضاجعه ويقرع فيها رؤوس قارئيه ومستمعيه ومشاهديه مثلما هي قضية حمضيات الساحل.. ففي كل عام وبدءاً من الشهر التاسع يبدأ الطنين والعنين والقصف عن هذه الثروة "الوطنية" التي يعتاش عليها أكثر من ستين ألف عائلة من أبناء الساحل، ولا يوجد خطط حكومية لتسويقها.
 
والقصة كلها تتلخص بأن إنتاج الساحل يصل سنوياً إلى نحو مليون طن من الحمضيات، يتم استهلاك النصف محلياً والباقي لا يوجد أسواق خارجية لتصديره، نظراً لأن أغلب الدول المجاورة والواقعة على البحر المتوسط تحقق الاكتفاء الذاتي، إضافة إلى أن المنافسة على السعر والجودة تجعل حمضيات الساحل في مرتبة متأخرة مقارنة بالدول المنتجة الأخرى.. إذاً ما الحل..؟!،...الحل، وكما كان يطرحه دائماً مسؤولو الساحل وفلاحوه هو يزيادة الاستهلاك المحلي..!!

فمثلاً، وصل التشبيح مرة برئيس اتحاد فلاحي اللاذقية، علي مرتكوش، الذي كان سابقاً ضابط مخابرات، أن تقدم باقتراح إلى رئيس الوزراء يطلب فيه إلزام جهات القطاع العام بشراء البرتقال وتخزينه في البرادات وتقديمه في اجتماعاتهم بدل القهوة والشاي، ويومها وقف رئيس الوزراء عاجزاً عن الرد..!!، فالموضوع أكثر من ورطة، سواء وافق أم لم يوافق.. لأن انتقاد موضوع حمضيات الساحل لا يقل خطورة عن انتقاد النظام السياسي في البلد، ويُعتبر من القضايا المحظور التعرض لها وحتى تقديم الاقتراحات العملية بشأنها.. ففي أحد المرات كاد أن يتعرض أحد الصحفيين للضرب عندما اقترح تخفيض الإنتاج إلى حاجة السوق المحلي،  كما حدث مع القطن الذي تم تخفيض إنتاجيته من مليون طن إلى 700 ألف طن في العام، رغم أنه محصول أكثر استراتجية من الحمضيات ويدر ملايين الدولارات، على البلد..

ومرة أخرى، تقدم اتحاد الفلاحين باقتراح يقضي بإلزام بعض رجال الأعمال ممن يستثمرون بمبالغ كبيرة داخل البلد بافتتاح معامل للعصائر الطبيعية، بالإضافة إلى منع استيراد العصائر من الخارج بشكل تام..!!

وحدث مرة أن بدأ الضغط على إحدى الشركات القطرية التي كانت تستثمر في مشروع سياحي في اللاذقية من أجل إنشاء معمل للعصائر الطبيعية، وتم عرقلة أعمال الشركة أكثر من مرة، فتهربت الشركة من الموضوع بأن أبدت استعدادها لدفع ثمن المحصول المتبقي لدى الفلاحين دون أن تأخذه، بحسب ما أخبرني أحد المسؤولين في تلك الشركة القطرية.

وكنت مرة أحضر افتتاحاً لأحد معامل العصائر الطبيعية في دمشق في العام 2008، وكان من المفروض أن يكون صاحب المعمل سعيداً وفرحاً بهذا الافتتاح، لكنه بدا قلقاً ومهموماً، إثر مشادة بينه وبين الصحفيين، بعد أن أشار إلى أنه لن يستجر أية كمية من الحمضيات المحلية، وإنما سيعتمد على استيراد المادة الأساسية من أوروبا.. قلت له على انفراد: ما السبب..؟، فنادى إلى أحد الخبراء عنده في الشركة، وكان مصرياً، وطلب منه أن يحدثني عن حمضيات الساحل.. فأخذ يشرح لي هذا الخبير أن نسبة المادة الكيماوية في الحمضيات السورية مرتفعة جداً، وأشار إلى أن هناك استخدام عشوائي لبعض المبيدات والأسمدة الكيماوية المحرمة دولياً، وهو ما سوف يتسبب بعدم دخول هذه العصائر إلى الأسواق الخارجية.. ثم حدثني صاحب المعمل أنه يتعرض لضغوط كبيرة من قبل جهات لم يسمها، لاستجرار المادة الأساسية من حمضيات الساحل.. لكنه قال لي أخيراً: لدي استعداد أن أغلق المعمل إذا تم إجباري على الأمر..

الغريب في كل هذه القصة، أن البلد تدمرت، وهي معرضة للتحطيم والتقسيم ولشتى أنواع المخططات، بينما لاتزال وسائل الإعلام المحلية، ترى في حمضيات الساحل، قضية مركزية.. بل إن المشكلة زادت تعقيداً بسبب انخفاض الاستهلاك المحلي، مع هجرة نصف الشعب إلى خارج البلد، وانخفاض القدرة الشرائية لباقي فئات الشعب الصامدة، والتي لم يعد أكل البرتقال واليوسفي والكريفون، ضمن أولوياتها.. فماذا هم فاعلون في هذه الحالة..؟

ترك تعليق

التعليق