السوريون و"الحلم الأوروبي".. مخاطر تتهدد المزايا


يخبرني صديق سوري أنه ترك نجاحاً مهنياً أسسه في الأردن في سنوات اللجوء، وهدم كل شيء في ليلة وضحاها، وقرر الهجرة لألمانيا. ويعتقد هذا الصديق أنه دفع الثمن غالياً، وهو يشعر بالندم اليوم.

صديقي هذا، أتاحت له الظروف حياة كريمة مقبولة بالأردن، بدخل شهري لا يقل عن ألف دولار، وبمنزل لأحد الأقارب، أعطاه إياه دون إيجار، ورغم ذلك، فضّل مغامرة الهجرة لألمانيا، على الأفق المحدود المتاح له في الأردن، حسبما أحسّ، خاصة أنه لا يشعر بـ "المواطنة". فحلم نيل جنسية أوروبية أغواه. وترك زوجته وأولاده الثلاثة وراءه، وهاجر. وفي "البرزخ" البحري العتيد بين تركيا واليونان، خاض ثلاث تجارب فاشلة كاد أن يموت غرقاً في إحداها، قبل أن ينجح في الرابعة، بعد أن فقد كل مدخراته.

اليوم هو في ألمانيا، لكنه ندم. لا يعتقد أن الحياة بألمانيا تناسب أسرته، فهو يتساءل: كيف سيُربي ابنته؟،..يواسي نفسه من جديد بمخطط مستقبلي يُطفئ نار النزاع المشتعل في نفسه بين القيم التي تربى عليها، وبين إغراء الحياة بألمانيا، فيقول لي: سأنال الجنسية فقط، ثم سأرجع للحياة في بلد عربي.

أمثال صديقي كُثر. سبق أن تحدثت معه قبل أن يغامر بالهجرة لألمانيا، وسألته يومها: هل أنت مستعد لتقبل التغيير القيمي الذي سيطرأ على حياتك؟، لم يُولي تساؤلي كبير اهتمام، وولى وجهه شطر ألمانيا، مع عشرات الآلاف من أقرانه.

سيدة سورية بدورها، قصتها لا تقل تناقضاً نفسياً عن قصة الصديق آنف الذكر. أتاح لها القدر ظروف حياة كريمة ومقبولة في مصر، بتمويل من أقارب لزوجها في أوروبا، كانوا مستعدين لتمويلهم في أي مشروع يمكن أن يؤسسوه في مصر، لكن الحلم الأوروبي أغواها هي الأخرى، فخاضت رحلة البحر بين أزمير والجزر اليونانية، برفقة ابنها الذكر الوحيد، لتصف تلك الرحلة بأنها أصعب لحظات حياتها، من الرعب والترقب، ومشاعر الندم. وهي اليوم في ألمانيا أيضاً، لكن خيبة تداعب مشاعرها، لا تعتقد أن حجم المعاناة التي خاضتها، يكافئ ما وجدته في نهاية طريق الهجرة إلى ألمانيا.

عشرات القصص التي بدأت تسردها وسائل الإعلام نقلاً عن شهود عيان من المهاجرين السوريين، يقرون: "لقد ندمنا". فهم لم يجدوا ما أملوه، أو ما تداعى إلى مخيلتهم حول الحياة بأوروبا.

دون شك، للحياة في أوروبا مزايا غير متوافرة في بلدان اللجوء العربي، أبرزها فرصة الحصول على جنسية، والشعور بالمساواة، والانتماء للمكان الذي يعيش فيه السوريّ، بدلاً من شعور اللجوء والنزوح الذي يحتل كيانه كلما تعامل مع مؤسسة حكومية أو جهة رسمية في دول اللجوء المجاور لسوريا.

إضافة إلى ما سبق، لا يمكن إنكار فرص النجاح المهنية والتعليمية المميزة، المتاحة للسوريين في الغرب، مقارنة بتلك المتاحة لهم في دول اللجوء المجاور لسوريا.

لكن مقابل ما سبق، هناك مثالب للحياة بأوروبا. والمشكلة تكمن في أن قلّة من الحالمين بأوروبا، يُلقون بالاً لتلك المثالب. من قبيل، الاختلاف القيمي الهائل الذي سيضطر السوريّ للتعامل معه، خاصة إن كان ربّ أسرة وأولاد. وهو اختلاف يهدد الاستقرار النفسي لبعض السوريين في كثير من الأحيان.

من المثالب أيضاً، عدد كبير من الحواجز والتحديات التي على السوريين أن يتجاوزوها كي يندمجوا في المجتمعات الأوروبية، منها حواجز اللغة وحواجز العادات والسلوكيات الأوروبية المختلفة كثيراً عما اعتاده السوريون في بلدهم، وفي البلدان العربية التي عاش بعضهم فيها. ورغم أن تلك التحديات تبدو للوهلة الأولى أمراً ثانوياً في سياق التخطيط للهجرة والاستقرار في أوروبا، إلا أنها تشكل عبئاً نفسياً وحياتياً قاسياً على السوريين عندما يصبحون على أرض الواقع هناك.

لكن، وبعيداً عن المزايا والمثالب، يبدو أن هناك حجماً كبيراً من المخاطر التي تتهدد المزايا المنتظرة في أوروبا، لم تكن في إطار المُفكر به، لدى معظم السوريين الحالمين بأوروبا. فالحماسة والتعاطف التي استقبلت بها شعوب أوروبا السوريين، خلال الأشهر القليلة الماضية، معرضة للانقلاب الكامل إلى الضد في حالتين، الأولى، أن تستشعر بعض الشعوب الأوروبية عبئاً اقتصادياً كبيراً من وجود المهاجرين لديها، ومن مزاحمة السوريين للسكان الأصليين، في السكن وفرص العمل، الأمر الذي قد يقلب التعاطف الشعبي الأوروبي إلى عداء، وهو ما حدث بالفعل في دول الجوار السوري، لبنان والأردن وتركيا، وحتى مصر، إذ استُقبل السوريون في بدايات الثورة بدرجة عالية من التعاطف الشعبي، لكن ذلك التعاطف سرعان ما خمد، بعد أن أدى التواجد السوري الكثيف في المناطق الحدودية إلى ارتفاع إيجارات السكن، وانحسار فرص العمل، على حساب سكان تلك المناطق، الذين أبدوا، في حوادث كثيرة، استياءً ملحوظاً من الوجود السوري لديهم.

أما الحالة الثانية التي قد تهدد المزايا التي يأملها السوريون في أوروبا، فهي حصول اعتداءات وتفجيرات ضخمة، تقوم بها خلايا من تنظيمات إسلامية متطرفة، عبر عناصر لها بين المهاجرين، تستهدف مدناً ومنشآت أوروبية، وتُوقع عدداً كبيراً من الضحايا البشرية، الأمر الذي سيؤدي، بناء على تجارب سابقة مشابهة، إلى انتشار "فوبيا" تجاه المسلمين، تترافق مع سلوكيات عنصرية حادة حيالهم. كما حدث بعيد أحداث 11 سبتمبر عام 2011.

خلاصة الكلام: أن الهجرة لأوروبا، لا تمثل ذلك الحلم النقي الخالي من الشوائب، كما يراه الكثيرون، أو كما يُوصف لهم من جانب أقران لهم يدمنون المبالغة. فأوروبا بنهاية المطاف، باب مفتوح للسوريين، له مزاياه، وله مثالبه، وتتهدد المزايا فيه مخاطر محتملة بقوة، الأمر الذي يتطلب من السوريّ الفطن حيزاً من التفكير الدقيق، قبل الإقدام على هذه المغامرة. وبكل الأحوال، لا يُنصح بهذه المغامرة إلا لمن سُدت في وجهه كل سبل الحياة الكريمة في بلدان اللجوء العربي القريبة من سوريا. إذ تبقى الأخيرة سكناً بديلاً مقبولاً إلى حين انتهاء المأساة السورية، التي لا بد أن تنتهي، مهما طال أمدها، الأمر الذي يُتيح للاجئين في البلدان المجاورة، العودة إلى وطنهم، على خلاف أولئك المهاجرين لأوروبا، الذين على الأغلب، سيضطرون للانسلاخ عن ثقافة وطنهم، وعن قيم مجتمعاتهم، وسيندمجون، بمرارة، في عالم جديد، قد لا يتقبلهم بالصورة التي ينتظرونها.

ترك تعليق

التعليق