الإيرانيون حينما يأكلون الـ "كنتاكي"

فيما يرى البعض أنها مصادفة، يربط آخرون بين افتتاح أول مطعم للوجبات السريعة الأمريكية، "ماكدونالدز"، في موسكو، وبين انهيار الاتحاد السوفيتي نهاية العام 1991.

اليوم، يتكرر التاريخ نسبياً في إيران، لكن لا نستطيع الجزم بأن المقدمات ستؤدي إلى نفس النتائج.

حمّل الكثيرون ميخائيل غوربتشاف، آخر زعماء الاتحاد السوفيتي، مسؤولية تفككه، نتيجة سياسة الانفتاح على الغرب. ويعتقد هذا الفريق من المؤرخين أن سياسة الانفتاح على الغرب، بكل أبعادها، سرّعت الخطى باتجاه انهيار الاتحاد.

الانفتاح، كانت له أبعاد كثيرة، منها البعد الثقافي والاقتصادي، وفي هذا السياق تندرج قصة مطعم "ماكدونالدز" الذي افتُتح في موسكو في كانون الثاني عام 1990، كتعبير عن الانفتاح على الثقافة الغربية، والتصالح معها.

قصة هذا المطعم كانت مثيرة، فافتتاحه في ساحة بوشكين بموسكو، في كانون الثاني 1990، ترافق مع احتفالات ضخمة من جانب الروس، واصطفت أعداد هائلة أمام المطعم، ففي يوم الافتتاح فقط، زار المطعم 30 ألف شخص، وشهد حفل الافتتاح إلقاء خطب وقص الأشرطة.

في عام 1990، مثّل افتتاح مطعم "ماكدونالدز" في موسكو، خطوة جريئة من غورباتشوف، في سياق سياسته للانفتاح على الغرب. ولقيت هذه الخطوة ترحيباً هائلاً من الشارع الروسي. والمفارقة، أنه بعد ربع قرن، تحولت مطاعم "ماكدونالدز"، من جديد، إلى ميزان لحرار العلاقات الروسية – الغربية. فقد أغلقت السلطات الروسية العام الماضي 4 فروع لـ "ماكدونالدز" في العاصمة موسكو، بسبب ما قيل أنها مشاكل صحية، لكن مراقبين روس أكدوا أن إغلاق المطاعم الأمريكية تعبير عن توتر العلاقات الروسية - الأمريكية، على خلفية الأزمة الأوكرانية.

ووصف مراقبون إغلاق المطاعم الأمريكية بأنه تحول عكسي من جانب الكرملين، باتجاه الانغلاق حيال الغرب، وكأن فلاديمير بوتين يحاول إعادة إحياء الاتحاد السوفيتي السابق.

جنوباً، لدى الحليف الإيراني، تسير دقات الساعة، بالعكس. فإيران سمحت قبل توقيع الاتفاق النووي الإيراني، بافتتاح فروع لمطاعم "كنتاكي" و"برجز كينج" الأمريكية.

لا نعرف إن كانت مفارقة، أم أن التاريخ يكرر نفسه. لكن مؤرخين كثر يربطون بين الانفتاح على ثقافة الغرب في الاقتصاديات المُغلقة، وبين انهيار الحكومات الآيدلوجية، بعد فترة.

إيران كانت قد أغلقت كافة الشركات التي تحمل طابع الثقافة الغربية على أراضيها بعد ثورة عام 1979. اليوم، تقبل إيران بعودة الثقافة الغربية إلى عُقر دارها. وحتى الآن من غير الواضح، هل هذا التراجع في الموقف الآيدلوجي من جانب ملالي إيران، لاعتبارات اقتصادية وشعبية داخلية؟، أم لضغوط أمريكية اشترطت الانفتاح الاقتصادي لإتمام الاتفاق النووي الإيراني؟

بكل الأحوال، لم تقرر سلسلتا مطاعم "كنتاكي" و"برجز كينج" افتتاح أي فرع لهما في إيران. تبدي السلسلتان تريثاً وحذراً حيال السوق الإيرانية، مما يرجح أن موافقة طهران على السماح بافتتاح فروع للمطاعم الأمريكية، على أراضيها، مرتبط باعتبارات داخلية.

الاعتبارات الداخلية تلك، هي ذاتها التي مهدت لانهيار الاتحاد السوفيتي، حسب مؤرخين. اعتبارات مرتبطة بتبرم الشارع من الانغلاق والانقطاع عن العالم، والانفصال عن ثقافة العصر.

أشار الكثير من المراقبين والعارفين بشؤون الشعب الإيراني، إلى أن شريحة الشباب فيهم، تظهر اندفاعاً حيال الثقافة الغربية، بصورة أكثر جرأة، الأمر الذي تتساهل حياله السلطات الدينية الإيرانية، تجنباً لانفجار شعبي، خاصة وأن الانتفاضة التي هزت طهران عام 2010، لم تغب بعد من أذهان صناع القرار بالعاصمة الإيرانية.

المفارقة أن مرشد الثورة، علي خامنئي، حذّر الإيرانيين، في آب الماضي، من أن الشركات الأمريكية تسعى لبسط نفوذها على السوق بعد رفع العقوبات عن إيران، قائلًا "رغم توقيع الاتفاق إلا أننا سنحمي إيران من هذا الوضع".

وفي ذات السياق قال القائد في الحرس الثوري الإيراني محمد رضا نقدي في تصريحات له مؤخراً "كنا نعتقد أنهم سيجلبون معهم تقنية طائرات بوينغ، إلا أنهم يريدون أن يجلبوا معهم مطاعم ماكدونالدز".

ورغم المخاوف من تأثير الثقافة الغربية على الشارع الإيراني، وتحديداً، شريحة الشباب فيه، إلا أن السلطات الإيرانية تقبلت، على مضض، فيما يبدو، الانفتاح على هذه الثقافة، من البوابة الاقتصادية.

انفتاح سبق أن قاده غورباتشوف خلال عقد الثمانينات، فانتهى بانهيار واحدة من أقوى الدول في التاريخ، وتفككها. فحينما تسمح لشعبك أن يأكل الـ "كنتاكي"، لا تستطيع في الوقت نفسه أن تحافظ على خطابك المناوئ للغرب، وعلى التعبئة النفسية لشعبك، ضده. فالشعوب ليست بهذا الغباء.

مع انفتاح الروس على الثقافة الغربية، في نهاية الثمانينات، ازداد تبرمهم بسياسات حكوماتهم التقشفية، وفسادها، تحت عنوان "الآيدلوجية الشيوعية"، في الوقت الذي يشاهدون فيه مستوى الحياة الغربية عبر "الستالايت". الأمر الذي ساهم في تعزيز عوامل انهيار الاتحاد السوفيتي بعد سنتين فقط من افتتاح أول مطعم "ماكدونالدز" في موسكو.

اليوم، يتكرر التاريخ نسبياً في إيران. سبق وسجل مراقبون كُثر ازدياد تبرم الشباب الإيراني بضيق العيش في بلد نفطي غني، تحت ذريعة مناكفة "الشيطان الأكبر". اليوم، هذا "الشيطان" بات على اتفاق مع طهران، والإيرانيون يأكلون طعامه. فهل سيتقبلون إنفاق الأموال وهدرها تحت ذريعة الصراع معه؟!، وهل ستبقى قدرات ملالي إيران على تعبئة أتباعهم من الشيعة في حروبهم بالمنطقة، هي ذاتها، بعد الانفتاح على الثقافة الغربية؟!

أمر سيجيب عليه القادم من الأيام.. لكن في معظم التجارب التاريخية، تكون المقدمات سبباً لذات النتائج.

ترك تعليق

التعليق