لماذا لا يجب منع تداول الليرة السورية في الشمال المحرر؟


يقترب موعد تطبيق قرار ما يسمى بـ" اللجنة السورية لاستبدال العملة" بمنع تداول الليرة السورية وإحلال الليرة التركية بدلاً عنها في المناطق المحررة، والتي تسيطر عليها فصائل من الجيش السوري الحر والفصائل الإسلامية، وذلك بدءاً من الأول من الشهر القادم (كانون أول/2015)، وتحت إشراف ما يسمى بالمحكمة الشرعية في حلب وريفها، لتقترب معه استحقاقات ومخاوف معقدة حول آلية تطبيق هذا القرار وانعكاساته المتوقعة، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.

فبعيداً عن أي تناول مسيء للجنة المذكورة ومدى الكفاءة والاختصاص الذي يؤهلها اقتصادياً وتمثيلياً لإصدار مثل هكذا قرار، وبلغة اقتصادية بحتة، لابد من توضيح مجموعة من النقاط المهمة والعواقب المتوقعة التي تعتري، أو يتوقع إلى حدٍ بعيد أن تصاحب تطبيق القرار المذكور.

فأمام حقيقة تآكل القوة الشرائية لليرة السورية، نتيجة الانخفاضات الحادة في سعر صرفها مقابل الدولار والعملات الصعبة، ولا سيما في الآونة الأخيرة، وفقدانها إلى حدٍ خطير وظيفتها الادخارية إلى ما يقترب من الصفر القياسي، والحديث المتكرر عن عدم وجود تغطية من الذهب والعملات الأجنبية ولا سيما الدولار لما تم طبعه من فئات ورقية جديدة بقيمتي الـ /500/ ل. س والـ/1000/ ل.س.

لكن، لابد من الاعتراف بأنه ثمة دور أساسي ما تزال تلعبه الليرة السورية كوسيلة للتبادل في سوقي السلع والخدمات وبصورة يمكن وصفها بالفعالة، هذا الدور الذي يستند في مناطق سيطرة النظام إلى القوة الملزمة التي يفرضها على المواطنين الذين ما زالوا رازحين تحت سلطته، والتي ظهرت بصورة جلية مؤخراً في تعميمه الأخير الصادر في منتصف شهر تشرين أول المنصرم بحصر التعامل بالليرة السورية في مناطقه تحت طائلة المسائلة القانونية وفرض عقوبات قاسية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ما تزال الليرة السورية تتمتع في مناطق خرجت عن سلطة النظام بقبول جيد حتى الآن في تعامل المواطنين في إطار الدور المتمثل بتبادل السلع والخدمات الاستهلاكية الجارية (تجارة التجزئة والخدمات المعيشية).

واقتصادياً، يمكن الإشارة هنا إلى علاقة منطقية تحكم دور العملة المحلية في السوق وفعاليتها في تأدية هذا الدور التداولي وهي العلاقة بين كمية النقود ومستوى الأسعار في المجتمع؛ وتحديد هذا العلاقة يقع في القلب بالنسبة لدور أية عملة محلية في سوقها بصرف النظر عن الدوافع التي تشكل رأياً سياسياً حول هذه العملة أو قوة إلزامية تفرضها بالقوة أو تعمل على منع التعامل بها بمختلف وسائل الترغيب والترهيب.

 فلقد حافظت الليرة السورية في إطار الواقع الذي عايشناه على موجبات هذه العلاقة من خلال وضوح سعر صرفها في السوق، إلا في حالات وأوقات نادرة، أضف إلى عدم قيام النظام بإصدار فئات جديدة أعلى من فئة الألف ليرة، واكتفائه بزيادات صورية للرواتب والأجور، والتي لم تحافظ إلا على نصيب يسير من قدرة المواطن الشرائية السابقة في مناطق سيطرته، وبالتالي هو واجه قلة موارده بالتضييق على القوة الشرائية للسيولة المتاحة أمام المواطنين على الرغم من زيادتها كمياً، وبالتالي ظل مستوى الأسعار مقارباً لمقدار انخفاض سعر صرف الليرة أمام الدولار، باستثناء عدد من المواد التي ترتبط بتكاليف صناعية ولوجستية خاصة.

وبعيداً عن الخطابات الوطنية الرنانة والرمزية السياسية للعملة السورية بارتباطها بالدولة السورية، والتبعات المعنوية التي تشكلها سابقة تاريخية بحجم قيام أطراف ثورية في بلد معين بمنع عملة هذا البلد عن التداول بين مواطنيه، فما فعله النظام من استدعاء للقوى الخارجية وليس آخرها الروس، يجعله في المرتبة الأولى في سلم انتهاك السيادة الوطنية، فإن القيام بمنع تداول الليرة السورية في ظل قيامها فعلاً بدور مقبول في سوق السلع والخدمات بالصورة المبينة أعلاه، يشكل نوعاً من الصدمة التي ستزيد من الضغوط على المواطنين الصامدين في المناطق المحررة، وإرباكاً يحتاج إلى آلية بل آليات ضبط معقدة مرتبطة بموضوعي التصريف والتسعير، هذا عدا عن إجراءات حشد جديدة من قبل النظام لمواجهة ذلك الإجراء عن طريق داعميه وعلى رأسهم إيران.

فأمام واقع وجود حالة من الفوضى في مهنة الصرافة في المناطق المحررة، وبدون أي تعميم ومع احترامنا للنوايا الصادقة وأصحابها، سيكون المواطن السوري في المناطق المذكورة صيداً سهلاً لأي جشع واستغلال مسيء من قبل تجار الأزمة في المهنة المذكورة، أضف إلى وجود تنوع في السلع والخدمات التي ما تزال الليرة السورية وسيلة التبادل فيها، مما يشير إلى درجة عالية من التعقيد في موضوع تسعيرها بالليرة التركية المفروضة بديلاً عنها.

ويزداد الأمر خطورة إذا ما عرفنا حجم السلع التركية المتواجدة في أسواق المناطق المحررة، والتي قد يجنح التجار إلى موازاتها بأسعارها في السوق التركية، مما يحرم المواطن السوري في المناطق المحررة من انخفاضها الاعتيادي، نتيجة التسهيلات التجارية التي تقدمها الحكومة التركية لمصدِّري البضائع التركية بشكل عام والمصدِّرين إلى سوريا بشكل خاص.

كل ذلك من شأنه تحميل أعباء إجراء منع تداول الليرة السورية بهذه الصورة الارتجالية والتعسفية على المواطن العادي، بينما يقتنص تجار الأزمة الفرصة من جديد على حسابه، وهو ما تعودنا عليه في السنوات الأربعة الماضية، وفي مختلف جوانب المعاناة التي مر بها شعبنا السوري الجريح، الأمر الذي يستدعي تدخلاً حقيقياً لمنع تطبيقه، والحفاظ على الخيارات النقدية المتاحة أمام هذا المواطن بما يضمن له سعيه في تأمين معيشته بالحد الأدنى الذي صمد ويصمد معه.

* د. عبد المنعم حلبي - دكتوراه في الاقتصاد والعلاقات الدولية، جامعة حلب

ترك تعليق

التعليق