قصص من الشتات السوري.. ومستقبل من القساة

وتفرقت الأسرة السورية.. وبات كل من فرد من أفرادها في بلد.. آباء لم يروا أسرهم منذ أكثر من خمس سنوات، وشباب لم يروا أهلهم منذ ثلاث سنوات وأكثر.. أما من في الداخل، فإنهم يبيعون بيت العمر بأبخس الأثمان ويهربون بحثاً عن الأمان بعد أن فقدت الأسرة أحد أبنائها تحت التعذيب أو برصاصة طائشة أو بعد أن باتت الحياة جحيماً لا يطاق.. باختصار، هذه صورة مكثفة عن حال الأسرة السورية اليوم، لكن يبقى للتفاصيل وجع آخر تعالوا نتعرف عليه..

بعت بيتي للإيرانيين بثمن بخس

أبو محمد الستيني وزوجته، مع ثلاثة شباب وشابة، وصلوا إلى فرنسا بطريقة غير شرعية قبل عدة أيام.. كانت آثار السنوات الخمس الماضية تعلو هامته، بينما تعطي ملامحه أنه تجاوز الستين بكثير..

وصل إلى مارسيليا في الجنوب الفرنسي، وكان تائهاً لا يعرف أين يمضي وماذا يفعل، لكن قيض له أن يلتقي بأحد الأخوة اللبنانيين، الذي قام بمساعدته على الفور، بما استطاع، ثم اتصل بي طالباً مني المساعدة..

يقول أبو محمد: "فقدت ابني البالغ 23 سنة تحت التعذيب بعد أن اعتقل لمرتين، وخرج في الثانية مريضاً، لم يكمل أكثر من شهر بيننا ثم فارق الحياة.. لهذا خشيت على ما تبقى من أولادي فقررت الهرب بأي ثمن..".

ويتابع: "عرضت بيتي للبيع في دمر في ريف دمشق، الذي يبلغ ثمنه أكثر من 100 ألف دولار، فلم أحظ سوى بزبون إيراني، دفع مبلغ 20 ألف دولار فقط، فاضطررت لبيعه..".

هكذا يلخص أبو محمد قصته بعدة كلمات، وعبّر عن عدم رغبته في الخوض بالمزيد من التفاصيل، كونه حسب ما أخبرنا، لا يريد أن يثير شفقتنا، فهو باختصار يعتبر نفسه قد وصل إلى بر الأمان ويرغب بعمل قطيعة مع كل السنوات الخمس السابقة..

أكثر من خمس سنوات لم ير أطفاله وزوجته

يقول أبو ضياء أنه عندما بدأت الثورة، كان في فرنسا يعيش ويعمل بها منذ أكثر من عشر سنوات، وكان يزور أسرته كل سنة في سوريا، لكنه بسبب مشاركته في الثورة السورية منذ أيامها الأولى، خشي في ذلك العام من زيارة أهله خوفاً من الاعتقال، بعد أن تأكد أن أحدهم التقط له صورة وهو يتظاهر أمام سفارة النظام في باريس.

يقول أبو ضياء: "لم أكن أرغب سابقاً في إحضار أسرتي للعيش معي في فرنسا، وبقيت على أمل أن النظام لا بد سيسقط.. وعاماً بعد عام، تغيرت ظروفي واضطررت للانتقال لبلد آخر طلباً للجوء.. وها أنا منذ أكثر من خمس سنوات لم أر أولادي الذين أصبحوا شباباً، فيما أواجه صعوبات بإجراءات لم الشمل..".

أرسلت أولادي لأوروبا خوفاً عليهم

أما أبو ابراهيم، الذي لايزال يعيش في سوريا هو وزوجته، فيقول أنه اضطر لإرسال ولديه الوحيدين إلى ألمانيا منذ أكثر من عام، خشية عليهم من الاعتقال والموت، بعد أن خسروا بيتهم وعملهم وكل شيء يملكونه..

ويتابع أبو ابراهيم: "أحياناً أشعر أنني لن أرهم مدى الحياة.. لكني بنفس الوقت مرتاح لأنني أنقذتهم من الموت".

ويرى أبو إبراهيم أن الفراق أصبح أخف الأضرار بالنسبة للكثيرين، فهو يجعل الإنسان يعيش على أمل اللقاء ولو بعد حين.. لكنه لا يخفي لوعته بعد أن بات البيت فارغاً من الأولاد وهو الذي كان يأمل أن يعيشيوا ويتزوجوا وينجبوا في كنفه.. أما الآن فهو لا يعرف كيف ستتطور حياتهم بعيداً عنه..

وتفرقت الأخوة

أصبح من الطبيعي أن تستمع لسوري يتحدث أنه لم ير أخوته الكبار منذ ثلاث أو أربع سنوات، أو حتى أن يقول أنه لا يعرف عن أخوته شيئاً ولا أين هم الآن.. بل أصبحت هذه القصص لا تستحق الرواية أمام هول غيرها من الأحداث والقصص، والتي فرقت الأم عن رضيعها، أو جعلت الطفلة الصغيرة تتيه عن أهلها..

يقول أبو علاء، الذي استطاع اللجوء إلى ألمانيا منذ نحو سنتين، أن أسرة أخيه تعيش في حلب منذ فترة طويلة، بينما هو يعيش في درعا.. وبسبب انقطاع الاتصالات في الفترة الماضبة وتشتت الناس، عرف مؤخراً أن أسرة أخيه يعيشون في مدينة جبلة في اللاذقية، لكنه لم يستطع التواصل مع أخيه مباشرة، وإنما تواصل مع ابنة أخيه التي تعيش في تركيا مع زوجها.. ويتابع بفرح: "لقد وجدتها على فيسبوك صدفة وذلك بعد أربع سنوات من الانقطاع، اعتقدت خلالها أنهم ماتوا جميعاً بأحد البراميل المتفجرة..".

الشتات وانعكاسه على الأسرة السورية

يرى الدكتور اسماعيل العمري، المدرس في الجامعات السورية سابقاً، وجامعة أم درمان في السودان حالياً، في قسم علم النفس والاجتماع، أن تشتت الأسر السورية، سواء الذين خرجوا من بيوتهم إلى مخيمات اللجوء أو أولئك الذين أتيحت لهم الفرص للوصول إلى الدول الغربية، سوف يكون له الكثير من المنعكسات السلبية لاحقاً على تكوين الأسرة السورية، فيما لو قررت هذه الأسر العودة من جديد إلى سوريا.".. ويضيف: "أهم هذه المنعكسات هو الثقافات المختلفة التي تعرض لها أبناء هذه الأسر والتي سوف تزيد من صعوبات التواصل داخل المجتمع الواحد فيما بعد.".

وأما فيما يتعلق بحالات الفراق داخل الأسرة الواحدة، فيرى الدكتور العمري، أن هذا الأمر سوف ينعكس على ضعف الانتماء داخل الأسرة الواحدة، مشيراً إلى أن الكثير من المفاهيم الاجتماعية التي كانت تتميز بها الأسرة السورية والمستمدة في أغلبها من تعاليم الدين الإسلامي أو من بعض العادات الاجتماعية، سوف تتعرض للتشويه، وقد نواجه مستقبلاً، جيلاً من القساة، أو ممن لا يقيمون وزناً للمفاهيم الاجتماعية التي كنا ولا زلنا نعتز بها، حسب قوله..

ترك تعليق

التعليق