سوق المهن خاوٍ بلا عرش.. قطط وتجار شنطة وحرفيون يلعبون النرد

مع كل محاولات وزارة السياحة السورية إعادة تلميع سوق المهن اليدوية في دمشق بمشاريع جديدة ومحال لها طابع الإرث التاريخي، إلا أن المكان بات خاوياً من أي روح، فلا مجموعات سياحية أجنبية كما السابق، ولا زبائن تغص بهم المحال التي تبيع القطع الذهبية والفضية التراثية، وحتى السوق الداخلي القديم زاد من شحوبه مناظر القطط الجائعة التي تنتشر في المكان، والبحرة القديمة منزوعة الحجر الأثري القديم.. كل شيء يبدو كما لو أنه خارج من زلزال.

محال خاوية

"لم يعد هناك أمل".. جملة اختصرت كل ما يمكن أن يقال عن الأوضاع التي وصل إليها أصحاب المهن الذهبية في هذا السوق العريق، وصاحب محل الفضيات الذي كان يعتمد ليس على أبناء البلد كما يقول بل على الوفود السياحية أراد أن يصف الحال دون رتوش.


أضاف (م.و): "كان موسم السياحة يغنينا عن عمل السنة بالكامل، وكانت المجموعات السياحية لا تنقطع عن السوق، وكانت تربطنا ببعضهم علاقات ويتصلون بنا قبل القدوم إلى سوريا ويطلبون تصميم أشكال معينة من الفضيات، هذا عدا عن الطلبات التي نؤمنها كهدايا لبعض الوزارات ليقدمونها للضيوف القادمين إلى البلد، وهذه أيضاً انقطعت بسب العزلة التي تعيشها البلد".

أمام أحد محال الفضايات يجلس ستيني أنيق يشرب الشاي وحيداً، عندما سألنا عنه قيل لنا بأنه شيخ كار من يصلح الفضة، ولكنه منذ أكثر من سنتين يأتي إلى السوق يفتح محله ثم يجلس حتى صلاة العصر ويذهب بعدها إلى منزله.

يقول شيخ الكار بعد أن أقنعته بالحديث دون ذكر أسماء: "الحال كما ترى..(عم نكش ذباب)، الفضة ما عادت من مقتنيات المواطنين، فهم بالكاد يلاحقون أرزاقهم فالحياة باتت صعبة، ومن يهتم ليس لديه المال أو غادر القطر هارباً من الموت، ونحن قاعدون بانتظار الفرج".


العوّاد بلا أوتار

صاحب أشهر محل لإصلاح العود الأصيل يضحك من سؤالنا عن أحواله.. يقول: "الناس كسرت الدف وبطلت الغنا..من له الآن قدرة على العزف وحوله كل هذا الموت كما أن لا أحد في اتحاد الحرفيين يذكرنا إلا عندما يحتاجون إلى هدية أو يطالبوننا بالالتزام بدفع الأجور، وهم مجموعة من اللصوص وأغلبهم هرب من البلد".

يتابع: "كل فناني سوريا من العازفين وأصحاب المزاج وحتى من يعزفون في الأعراس كانوا زبائني، فأنا لا أصلح الأعواد فقط، ولكن أبيع (قطع غيارها)، ولدي أفضل أوتار تليق بالنغمات الشرقية.. ولكن الناس لم تعد تحتفل ولا تتزوج ولا حتى تخرج بمشاويرها التي كانت أسبوعية، كل شيء تغير".

البروكار.. كان زمان
 
ندخل إلى السوق القديم، حيث هنا روح تراث الشام من البروكار الدمشقي والأنوال، التي كانت تنسج أقدم قماش في العالم وأجمله، إضافة إلى صناعة السجاد المحلي وبعض الصناعات الجلدية.

في وسط السوق تبدو عمليات الترميم المتوقفة تشبه بيوت أحياء الشام الجنوبية المهدمة من فعل هجمات النظام، وأعمدة خشبية تحاول منع سقوط القناطر القديمة.

محل البروكار الذي يتصدر المكان بجوار المسجد القديم يبدو شاحباً ولا يوجد فيه إلا الشاب الذي كان يشرح للمجموعات السياحية الأوروبية تاريخ هذا القماش وصناعته الدقيقة لتي تأخذ وقتاً وجهداً، ولكنه اليوم يلتذ بوحدته منتظراً دورية شرطة تأخذه للالتحاق بالاحتياط.

يقول الشاب الوسيم: "كل المجموعات السياحية كانت تأتي أولاً إلى هنا وتتوقف أكثر وقت للفرجة على الابداع السوري، ولكن كما ترون لا أحد يلقي علينا السلام في هذا الوقت السيء، وهذه البضاعة هي من سنتين، واضطررنا لإضافة بضائع رخيصة لبعض المهتمين من الشباب الذين يعدون على الأصابع وهم يتناقصون أيضاً".

تجار الشنطة

في ظل هذا الواقع لم يجد الكثير من الحرفيين بداً من التحول إلى "تجارة الشنطة"، كما تسمى، عبر المشاركة في بعض المعارض الدولية والإقليمية، والتوقف عن التصنيع، وجلب مصنوعات رديئة ورخيصة لبيعها في محلاتهم، وتحقيق بعض الربح الذي بات حلماً.

يقول عن هؤلاء (م.م) أحد الحرفيين: "هؤلاء في أغلبهم مرتبطون بالنظام عبر اتحاد الحرفيين، ويتم إشراكهم في المعارض لتبييض صورة النظام ورسم صورة خاطئة عن البلد في أنها تعيش بأمان، وهذا غير حقيقي، وبعض هؤلاء يدفع من جيبه للشبيحة ورجال الأمن".

قطة تختصر المكان

قطة مثل مئات القطط التي تعج بالمكان تختصر واقع سوق كان يعج بالناس الملونين من كل أصقاع الأرض يتقدمهم الأدلاء السياحيون الذين يتفنون في رواية تاريخ البلد والمكان، واليوم مجرد سوق للقطط الجائعة التي تنتظر انتهاء أصحاب المحلات من وجبات إفطارهم البائسة.

خلف القطة علم النظام، رمز الخراب الذي صنعته يد الأسد المجرمة ومؤيديه الرعاع، الذين نفذوا تهديداتهم بحرق البلاد، ولكن ثمة أمل من بعيد يقول بأن غزاة كثر مروا على هذه الأرض، تركوا جثثهم ليأكلها التراب، فيما بقيت البلاد.


ترك تعليق

التعليق