حلب.. تحالف المال والدين والسلطة


يتمتع  رجل الدين في مدينة حلب وريفها، بمكانة في حياة الناس، قل أن تجدها في باقي المدن السورية الحضرية.. وهي مكانة انتقلت مع أبناء الريف الذين هاجروا إلى حلب بأعداد كبيرة بعد سبعينيات القرن الماضي، وانتقلت معهم بعض التقاليد المرتبطة بالطرق الصوفية، والتي تعتبر رجل الدين أو شيخ الطريقة، بأنه شخص "كشف الغطاء" عنه، وبالتالي واجب طاعته..
 
بالإضافة إلى ذلك، فإن موقع حلب كمدينة صناعية بامتياز، جعل أبنائها يهتمون بالمهن والصناعة والتجارة على حساب العلم والتعليم.. وهو ما كان يدفع الناس لتعلم شؤون دينهم وحياتهم من خلال رجل الدين.. إذ لا يخلو حي في حلب من دروس دينية، تقام في المساجد أو في البيوتات كل يوم خميس أو بعد صلاة الجمعة.. وتقريباً كان لكل مجموعة من الناس، شيخ تتبع له وتستفتيه بكل شؤون حياتها.. لدرجة كان يقال في حلب أن "من ليس له شيخ، فشيخه الشيطان"..!!

هذه المكانة التي كان يتمتع بها رجل الدين في حلب، لم تلفت انتباه سلطة البعث في بداياتها ولم تحاول توظيفها أو الاستفادة منها، بل على العكس حاربتها واحتقرتها، وخصوصاً بعد أحداث الأخوان المسلمين في العام 1980.. وهو أمر لم يكن يخص حلب وحدها، بل في كل سوريا، وهو ما تسبب بانعكاسات سلبية فيما بعد، عند انطلاق الثورة السورية، سوف نأتي على ذكرها لاحقاً.. أما الذي حاول الاستفادة من مكانة رجل الدين في المجتمع الحلبي، فهم رجال الأعمال والصناعيين وأصحاب التجارة.. لقد حاولوا الاستفادة منهم كرجال دعاية، لأشخاصهم ولمنتجاتهم.. لأنه كان يكفي أن يقف رجل دين مرموق في حلب وينقد أحد رجال المال، حتى تتدهور سمعة هذا الرجل في حلب بالكامل، وغير مستبعد أن يوقف الناس وباقي التجار التعامل معه.. وحتى رجال المال المسيحيين كانوا يحاولون التقرب من رجال الدين المسلمين، ويطلبون صحبتهم..

أما وسائل تقرب رجال المال من رجال الدين، فكانت في أغلبها من خلال أموال الزكاة والصدقات، التي تمنح لهم من أجل توزيعها على الفقراء دون تدقيق خلفهم.. بالإضافة إلى دعوتهم إلى حفلاتهم ومناسباتهم الاجتماعية واستشارتهم بالحلال والحرام، فيما يتعلق بأعمالهم، ليقينهم أن ذلك سوف يترك أثراً طيباً لدى رجل الدين، لابد أن يستخدمه في أحاديثه العامة..

ومما يجب التأكيد عليه في هذه النقطة تحديداً، وحتى لا نفهم بأننا نقصد بأن المجتمع الحلبي كان يُقاد بطريقة القطيع، وإنما ما أردنا قوله بأن علاقة رجل المال برجل الدين في حلب كانت اتقائية أكثر منها وظيفية، بمعنى أنه لم يكن هناك تحالف واضح بين الطرفين ضد المجتمع، وإنما علاقة منفعة متبادلة.. رجل المال يسعى منها للحصول على السمعة الحسنة، ورجل الدين يزيد من مكانته بين الناس من خلال أموال الأغنياء التي يوزعها على الفقراء..
     
هذه التركيبة التي كانت تميز المجتمع الحلبي لم تكن تلفت انتباه السلطة إلا وقت الحاجة إليها، وفي بعض المناسبات، بينما مثلاً لم يحاول حافظ أسد الاستفادة منها أو توظيفها لصالحه أبداً، بل كلا الفئتين، رجال المال ورجال الدين، شهدا في عهده تهميشاً كبيراً، وسلط عليهما رجال مخابراته من أجل أن يمنع أي تدخل من قبلهما في شؤون السياسة والحكم.. وهو ما تم بالفعل..

إلا أن الأمر اختلف مع تسلم بشار الأسد للسلطة في العام 2000.. فهو تنبه لأهمية حلب وتركيبتها الاجتماعية السابقة كثيراً، وحاول الاستفادة منها وتوظيفها لصالح سلطته إلى أقصى حد.. لقد عرف بشار الأسد أن الكلمة العليا في حلب هي لرجال الدين بالدرجة الأولى وليس لرجال المال، سيما وأن حلب كانت تضم رجال دين نجوم، مثل أحمد حسون والدكتور محمود عكام، اللذين كانا يتميزان بعلاقتهما مع النخب الثقافية والاقتصادية، بالإضافة إلى رجال دين في الأحياء الشعبية وخطباء مساجد معروفين، فحاولت مخابرات بشار الأسد مد جسور التعاون معهم ومنحهم امتيازات وحريات ما كانوا ليحلموا بها في عهد والده .. ومن أبرز هؤلاء كان أبو القعقاع أو محمود غول أغاسي الذي سطع نجمه كثيراً في حلب منذ العام 2001، وبدأ يدعو للجهاد ويدرب الشباب على القتال على مرأى من الجميع في ظاهرة ملفتة كثيراً..

 لقد استمر شهر العسل بين النظام ورجال الدين في حلب وفي عموم سوريا تقريباً حتى العام 2005، وهو العام الذي شهد مقتل أحد أبرز رجال الدين في سوريا، وهو محمد معشوق الخزنوي، الذي كان له أتباع بعشرات الآلاف.. ويقال بأن المخابرات هي من اغتالته على خلفية انتقاداته للنظام بسبب قمعه لثورة الأكراد في العام 2004.. كذلك تميز العام 2005 بصعود أحمد حسون إلى دار إفتاء الجمهورية ومحمود عكام لدار إفتاء حلب، أما أبو القعقاع فقد تحول من رجل يدعو للجهاد ويدرب على القتال إلى رجل إصلاحي ويدعو للحوار إلى أن تم اغتياله في العام 2007.. بمعنى آخر حاول النظام أن يفتت المظاهر الشعبية للدين، من خلال تحويل رجالات الدين الذين نالوا شهرة بين الناس ومارسوا تأثيراً عليهم، إلى مناصب رسمية، وذلك من أجل أن يبعدهم عن المجتمع ويبعد المجتمع عنهم، وبالتالي يختفي تأثيرهم.. ويجب كذلك ألا ننسى الضغوط الأمريكية على النظام واتهامه بإرسال إرهابيين إلى العراق، كانت من الأسباب التي دفعت بشار الأسد لإغلاق صفحة رجال الدين بالكامل، وفتح صفحة رجال المال والأعمال على مصراعيها.. ولحلب كان لها حصة كبيرة في هذه الصفحة..

يمكن القول أن شكل النظام بعد العام 2005، تغير بالكامل، فهو كان عاماً فاصلاً في حياة النظام بكل معنى الكلمة، وخصوصاً بعد اغتيال رفيق الحريري، واضطرار بشار الأسد لسحب قواته من لبنان بعد نحو ربع قرن من التواجد هناك.. لقد تحول بشار بعد ذلك التاريخ إلى الأوضاع الداخلية، ولكن بذات الأفكار الشيطانية التي حاول اللعب بها على مشاعر المجتمع قبل وبعد الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003.. وهذه المرة من بوابة الاقتصاد..

إذ وجد النظام أن أفضل طريقة للسيطرة على المجتمع، ليس من خلال رجال الدين، وإنما من خلال رجال الأعمال، عبر ربط مصالح الناس ومعيشتها بمجموعة من هؤلاء الرجال المقربين من السلطة، وبالتالي يغلق على نفسه أبواب المشاعر التي لا يمكن أن يتنبأ بعواقبها أو قد يفقد السيطرة عليها في أي لحظة.. كما حدث مع المظاهرات التي سيرها على السفارة الأمريكية بدمشق بعد غزو العراق أوعلى السفارة الدنماركية بحجة الرسوم المسيئة للنبي /ص/..
 
وبذلك تكون قد بدأت مرحلة جديدة، أصبح فيها رجل المال هو صاحب الكلمة العليا في كل شيء..  ولم يعد رجل الأعمال الحلبي هذه المرة بحاجة للتقرب من رجل الدين من أجل أن يلمع سمعته، بل أصبح رجل الدين هو من يسعى وراء رجل الأعمال، بعد التضييق على أنشطته واتهامه بنشر التشدد.. حدث ذلك من خلال الإعلان عن اكتشاف تنظيمات جهادية تنوي القيام بأعمال إرهابية في سوريا وعلى رأسها جند الشام.. لذلك عادت السجون لتمتلئ من جديد بالإسلاميين..

رجال الأعمال الحلبين والسلطة

لم يكن رأس المال الحلبي عبر تاريخه، ينظر بارتياح للنظام والسلطة في البلد، وذلك من أيام عبد الناصر الذي قام بتاميم أملاك أبرز رجالات المال الحلبيين في ذلك الوقت.. وكذلك لم يكن خطاب حزب البعث، منذ مجيئه إلى السلطة في العام 1963، مسالماً مع أصحاب رؤوس الأموال.. فهو كان يتهمهم بالرجعية وبأنهم ينفذون مخططات الامبريالية والاستعمار.. بالإضافة لكل ذلك، فإن حلب كانت تشعر باستقلاليتها أو باختلافها وبتميزها عن باقي المدن السورية، فهي كانت ترى نفسها بأنها العاصمة الاقتصادية لسوريا بلا منازع، وبأن نظام بشار يريد أن ينقل الثقل الاقتصادي منها إلى دمشق وحمص..  ناهيك عن أن أغلب رجال الأعمال الحلبيين هم صناعيون ولا يؤمنون بالتوجهات الاقتصادية الجديدة للنظام، القائمة على الاقتصاد المالي واقتصاد الخدمات.. لذلك وجد النظام صعوبة كبيرة في التحالف مع رجال الأعمال في حلب، وإدخالهم في تكتلاته الاقتصادية.. حيث أنه من بين عشرات رجال الأعمال الكبار، لم يستطع أن يجتذب، سوى ثلاثة أو أربعة فقط ممن كانوا يعملون في مؤسساته، منهم فارس الشهابي رئيس غرفة الصناعة، وحسن زيدو رئيس غرفة التجارة، والذي يشغل زوج ابنته بشر يازجي منصب وزير السياحة حالياً.. أما محمد صباغ شرباتي الذي كان شريكاً لرامي مخلوف في شركة شام القابضة، فقد تم التخلص منه، من رئاسة غرفة صناعة حلب في العام 2009، لصالح فارس الشهابي، وهو ما أدى إلى أفول نجمه بالكامل.. وكذلك رجل الأعمال محمد صالح الملاح، عضو مجلس الشعب السابق ورئيس غرفة التجارة السابق، وأحد المؤثرين في الحياة الصناعية والتجارية في حلب، فقد تعرض هو الآخر لحادث سير في العام 2007 تسبب بشلله، وأفقده فاعليته في الوسط الاقتصادي الحلبي والسوري..

 كل تلك العومل، لم تؤد إلى النجاح الذي كان يأمله النظام، من تحالفه مع رجال الأعمال الحلبيين، بالرغم من كل الإغراءات التي حاول تقديمها لهم عبر شراكة رامي مخلوف.. إلا أنه من جهة ثانية، استطاع الاستفادة منهم عند اشتعال الثورة في حلب منتصف العام 2012، فقد حاول أن يستخدم نفوذهم وسيطرتهم على الحياة الاقتصادية للناس، في قمع الثورة، وتمويل عمليات التشبيح، تحت التهديد بتدمير أعمالهم ومنشآتهم.. وهو أمر نجح به إلى حد بعيد داخل المدينة، لولا أن الثورة كانت قادمة من خارجها..!!

ترك تعليق

التعليق