نهايات فجائعية لجيل العجائز السوريين

لم يتوقع أبو نذير أن تؤول سنوات عمره الأخيرة إلى هذه النهاية البشعة.. الرجل ابن الثمانين عاماً يحمل ما يزيد عن وزنه مرتين من أجل 100 ليرة سورية، وصاحب العمل الشاب يصرخ عليه بصوت كريه (يلا يا ختيار)، يمشي العجوز إلى مستودع البضاعة ودموعه تسبق حمولته، ويسأل ما الذي فعلته يا الله لتكون نهايتي بهذا السوء.

حال أبو نذير - العامل في معمل الكرتون بإحدى مدن ريف دمشق الغربي-  قد تكون أهون من حال كثير من عجائز البلد رمتهم السنوات الخمس العنيفة التي شهدتها البلاد على أرصفة التسول والجوع، وهذا الأمر ينطبق على نسوة عجائز يأكلهن البرد والجوع في العاصمة والريف لا يأبه لأمرهن أحد فالناس كما تقول إحداهن (يا دوب عايشين).


محاولات فاشلة للعيش

البرامكة وسط العاصمة، وسوق وكراج انظلاق لكل جهاتها، هنا يحاول أبو محمود أن يبيع بضاعته الخفيفة التي يستطيع حملها، أكياس نايلون يعرضها بخمس ليرات على المارة، ويصرخ بصوته المتعب (كيس- كيس)، يمر المنهكون مثله بالكاد بعضهم يشفق عليه ويشتري منه كيساً يضع فيه ما يحمل.

على مسافة ليست بعيدة على الرصيف المواجه لكلية الحقوق، يضع ستيني متعب بعض علب البسكويت والعلكة ومجموعة صغيرة من النظارات الشمسية لربما تكون بضاعىته رائجة لطلاب الجامعة، ولكن كما يقول الرجل بالكاد يربح 150 ليرة في اليوم فهي حاجات صغيرة بأرباح صغيرة أيضاً.

في سوق الحمراء منذ أكثر من سنتين تحاول أم محمد بيع منتجها من خبز (الصاج) البلدي مع بعض الأكياس التي تحوي (الكشك) وهو من مواد المونة التي يحبها السوريون في الشتاء، وبعض التين اليابس، فأم محمد من القلمون، وسكانه يجيدون تصنيع هكذا منتجات، تقول المرأة الخمسينية: الحمد لله على كل حال، الربح القليل أفضل من التسول.

محاولات للحياة ببعض الكرامة المهدورة وسط زحام البشر الباحثين عن النجاة بلقمة خبز في ظل حصار الموت الذي يفرضه النظام وزبانيته حتى على أولئك العاجزين عن قول كلمة : لا؟.

مضايقات وإذلال

أبو مراد يضع بسطته مع مجموعة البسطات التي تزدحم أمام كلية الحقوق فقد أصبحت سوقاً كبيرة تبيع كل شيء، ومثل غيره اشترى الرجل الكبير بضاعة لا تزيد عن عشر بنطلونات جينز ومثلها كنزات وقبعات صوفية وافترش الرصيف كغيره تحت عنوان الله هو الرزاق يرزق من يشاء، ولكن الشبيحة وتساعدهم شرطة المحافظة يلاحقون من لا يدفع الإتاوة، ومن لا يحجز مكانه بالمال.

"أبو مراد طرد من البرامكة أكثر من مرة ويتوسط له البعض كونه رجلا كبيرا وبضاعته لا تنافس أحدا، وتدمع عينه عندما وصفه أحد الأولاد بأنه تافه مثل بضاعته.

شرطة المحافظة التي توجه لها الأوامر بإزالة البسطات، فقط تنفذ هكذ قرارات على الفقراء والكهول الذين لا يستطيعون الركض في الشوارع الخلفية، وهكذا كان مصير أبو معتز مع بضاعته التي تمت مصادرتها أكثر من مرة على مدخل سوق الحميدية مع أن السوق تعج بالبسطات والباعة المتجولين، ورغم كل رجاءاته وقهره وتوسله لرجال الشرطة إلا أنه تلقى دفعات رمته في منتصف الطريق.

التسول.. قدراً

أمام مدرسة بهجت المطار رميت امرأة معاقة في السبعين من عمرها مع غطاء صوفي متسخ، وتلبس فستاناً أحمراً ملطخاً ببقع زيتية وبجانبها كرسي متحرك، والمارة الدائمون من المكان يؤكدون أنها منذ ثلاثة أيام مرمية هنا، والبعض يقول أن أحد ما يأتي بها ويرميها لعدة أيام ثم يأخذها لمكان آخر، وهي على هذه الحال منذ أشهر.



أمام مقهى الروضة ثمة عجوز يجلس على الرصيف تعود عليه الزبائن يرمون له ما تركوه من قطع معدنية من جميع الفئات، وبعضهم يشتري له سندويش شاورما كحسنة فوجه الرجل لا يوحي بالتسول إنما بالحاجة التي وقع فيها كل السوريين في وقت هان فيه كل شيء حتى كرامة نهاية العمر.

يقول الرجل: وحدي أنام في الحديقة، بيتي هدم في داريا، وكنا مرتاحين إلى أن جاءت براميل السماء قتلت من قتلت وهرب من هرب، ماتت العائلة ورفضت الخروج لكنني لم أستطع العودة، فالحياة تحت سقف بيتي المهدم أشرف مما أنا فيه.

لا رعاية.. ولا من يحزنون

هؤلاء جميعاً عاملون ومتسولون برعاية الله، ولا جمعيات خيرية ولا إنسانية تلتفت لكبار السن الذين أذلتهم الحياة عدا عن أوضاعهم الصحية الصعبة، وازدادت أعدادهم مع ازدياد الضربات العسكرية وشمولها لكل محيط العاصمة وريفها، وكذلك هجرة الهاربين من الموت في المحافظات الأخرى، وهؤلاء الذين يتكاثرون يوماً بعد آخر لا يلتفت لهم أحد، ووزارة الشؤون الاجتماعية ملتهية بسرقة المعونات ودفع التعويضات لقتلى نظام الأسد ورعاية عائلاتهم بينما يأكل الذل والبرد عجائز الوطن فقط لأنهم أجداد من ثاروا، وآباء الجيل السوري الجديد الذي قال لا، لنظام مجرم قاتل.

ترك تعليق

التعليق