البيئة الحقيقية للانحدارات الخطيرة في قيمة الليرة السورية


بعد صدور قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في 16/12/2015 برفع أسعار الفائدة الأمريكية بمقدار /25/ نقطة بدءً من بداية شهر كانون الثاني/2016، وذلك بعد عشرة أعوام كاملة على آخر قرار برفع أسعار الفائدة الأمريكية، ثارت أسئلة عديدة حول تأثير هذا القرار على الليرة السورية المتضعضعة أصلاً، في ظل أجواء ربما تعتبر إيجابية على طريق إيجاد حل سياسي للأزمة السورية.
 
وبالنسبة لشبكة الدعم الذي يتمتع به النظام، بالنظر إلى حلفائه "النفطيين"، فإن هناك ما قد يبدو مهماً بتزامن قرار رفع أسعار الفائدة مع قيام الكونغرس الأمريكي برفع الحظر عن الصادرات النفطية الأمريكية للخارج بعد أربعين عاماً من فرضه، لتزيد الولايات المتحدة من حجم الضغط على أسواق النفط العالمية وأسعارها وأطرافها الرئيسيين.

الليرة السورية التي اعتمد (صمودها الهزلي) عند شفير الانهيار على الدعم الخارجي، الإيراني بالتحديد، وقوانين رادعة بل مرعبة شكلت حالة إلزام بالتعامل بها في مناطق سيطرة النظام وبمستويات غير مسبوقة، يُشار إلى أن ما وصلت إليه هو نتيجة أسباب منطقية في ظل اقتصاد تضاءل فيه الإنتاج الوطني، ولا سيما (الصناعي) وفي القطاعين العام والخاص، الذي أدى إلى انحدار نشاط التصدير إلى مستويات دنيا، وبالتالي استمرار العجز التجاري المزمن وما يستهلكه من دولار؛ وكذلك توالي العقوبات الدولية على القطاعين: الاستثماري (رجال أعمال ومؤسسات استثمارية كبرى) والمالي (مصارف عامة وخاصة والمصرف المركزي وموظفين في كل منها)، هذه الليرة سيكون موقفها (في ظل بيئتها المبينة أعلاه) أكثر صعوبة في ظل دولار أكثر قوةً وجذباً بالتأكيد بالتزامن مع حلفاء يعتري الانخفاض مستويات السيولة التي كانت تملأ جيوبهم من الدولار النفطي.

وبالرغم من أن انخفاض عملة أية دولة تتعرض لحالة حرب وأحداث دامية أمر يقترب من (المُسلَّمة)، فالحالة الاستنزافية من التسلح التي لم تمر بها سوريا من قبل وعلى هذا المدى الزمني شكل العبء الحقيقي على الخزينة العامة وتوجيه الدولارات القادمة من دعم الحلفاء.

-    ولكن هل شكَّل هذا الاستنزاف العسكري مع التراجع الخطير في المؤشرات الاقتصادية كل ما يمكن ذكره من مسببات لما آلت إليه قيمة الليرة السورية؟؟!!

في الواقع، إن الجواب على السؤال السابق هو (كلا)، إذ لابد من بيئة جعلت لهذه المسببات آثاراً أكثر عمقاً وفعالية، فالنظام الذي أطلق موجة (انفتاح اقتصادي) بمظاهره المتعددة قبل انطلاق الثورة السورية، سعى إلى الإبقاء على المظاهر -ولو الشكلية- لذلك الانفتاح الذي كان يعتبر في مرحلة ما نوعياً، حيث ورَّط (النظام) نفسه مالياً أيضاً في تطبيق شعار (سورية بخير)، ومع استشراء الفساد وعدم الثقة بإجراءات (سورية بخير) المالية، أصبح من الصعب أن يكون لهذه الإجراءات أي أثر إيجابي مديد في عمق في الوعي الاقتصادي السوري أو تحقيق تفاعل بناء بين ما يقال وما يتم تطبيقه أو ما يحصل بالفعل، حيث ثبت انتقال الأرقام الكبيرة من ما يتم عرضه من ملايين الدولارات في المزادات العلنية إلى شخوص محددين من أتباع النظام، كما أن التسهيلات الائتمانية المقدمة من الحلفاء، الصين وإيران، ثم هذه الأخيرة وحدها، جعل ظاهرة الانفاق على استيراد البضائع أمراً مساعداً دائماً لتسريب الدولار لصالح الطبقة عينها أو الشبيهة بها من حيث الولاء للنظام؛ ومع استمرار حالة العجز التجاري ظلت حركة (الرأسمال الدولي) هي التي المحرك الوحيدلـ(رأس المال المحلي)، ورسخ التبعية الشديدة للدولار الأميركي.

وفي جانب آخر من الصورة فإن أسلوب التعيينات الذي اتبعه النظام في إطار انفتاحه المقاد من قبل أخطبوط المال والأعمال (رامي مخلوف)، حرمه من رجالات حصيفة قادرة أن تقود الشراع المالي للدولة بخطة مغايرة لما كان قائماً في ظل ذاك الانفتاح، رغم وجود قوالب مسبقة لجأ إليها في ظروف عصيبة -كنظام شمولي-خلال الثمانينات، عندما كان يتوفر له أمثال أولئك الرجال. فإصرار (أديب ميالة) ، مع أو في مواجهة عدة وزراء متتالين شغلوا أو يشغلون وزارتي الاقتصاد والمالية على الاستمرار بلعبة تلبية احتياجات السوق الداخلية من الدولار الأمريكي ومختلف السلع والخدمات بالشكل الذي تم بيانه آنفاً، لتأمين قنوات (مُشرعنة) لنقل كميات هائلة من الدولار من ملكية الدولة إلى ملكية أفراد من النخبة الحاكمة أو من المقربين منها، تسبب في الوقت نفسه بجعل الوعي الاقتصادي للمواطن السوري العادي منحصراً بعقلية السوق وحركة العرض والطلب، والتي تتأثر لزاماً بتطورات الواقع السياسي والعسكري بشكل عضوي، بدل أن يتم استعادة شمولية الدولة بكل مظاهرها في إطار قالب جاهز كان معمولاً به في ثمانينات عصيبة كان الدولار فيها أرخص من (40) ليرة سورية، على الرغم من أن (حافظ الأسد) لم يكن يملك في أحد الأيام في تلك الثمانينيات من الدولارات ما يغطي سفرة واحدة إلى إحدى دول أوربا الشرقية، وعلى الرغم من انحدار قيمة الليرة السورية آنئذٍ إلى مستويات قياسية.

وهكذا فإذا وضعنا نصب أعيننا هذه الصورة الحقيقية والأوسع للبيئة الحاضنة لليرة السورية، فإن التزامن المرعب بين (الدولار القوي) و(النفط الرخيص)، سيكون ذو أثر كبير خلال الأيام القادمة على ليرة متعبة اقتصادياً ومالياً وبيئةً، فُرض على داعميها الخارجيين حالة سوق نفطية استثنائية، ستجعلهم يتحسسون جيوبهم جيداً قبل متابعة ما يقومون به تجاه نظام لم يترك فرصة للتغول في فساده إلا واستغلها على حساب الدولة السورية ومقدراتها. 

ترك تعليق

التعليق