الدولار الأقوى.. هل هو تمهيد جمهوري ضد روسيا؟!


بالرغم من أن قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة الذي تم اتخاذه في منتصف كانون الأول من العام المنصرم، كان قراراً متوقعاً، إلا أن النتائج الاقتصادية لذلك القرار لم تسر في الاتجاه الذي كان متوقعاً لها بعد صدوره، الأمر الذي قد يشير إلى وجود فائدة من محاولة قراءة هذا القرار من زاوية غير اقتصادية.

فعلى سبيل المثال، وفي الوقت الذي تأثرت فيه أسعار الذهب سلبياً بالانخفاض مع اقتراب موعد صدور القرار آنئذٍ، حيث كان أثر زيادة احتمالية صدوره كافياً لإيصال سعر الذهب إلى مستوى الحاجز النفسي (1000 دولار للأونصة)، فإن مستويات أسعار الذهب على مدار الأسابيع الخمسة التي تلت رفع الفائدة الأمريكية ما لبثت أن ابتعدت عن هذا الحاجز، بل عادت لتخترق حاجز (1100 دولار للأونصة) لمرتين.

كما أن المبررات التي يمكن أن تساق على صعيد الاقتصاد الأمريكي لتغطية هذا القرار، لم تكن تشفع بمعدلات مقلقة في واقع معدلات التضخم التي كانت في حدود مقبولة.

وعلى الرغم من أن معدل البطالة كان في أحسن مستوياته، إلا أن التقارير التي كانت تبدي مخاوف على قطاع العمل وعجلة التوظيف لم تكن قليلة أو غير مهمة. أضف إلى أن وجود حالة من الفوضى في الاقتصاد العالمي، والتي وإن لم تكن قد وصلت إلى مستويات مقلقة، إلا أنها كانت قابلة لتجعل قرار رفع أسعار الفائدة محل تمحيص ودراسة أوفى؛ فمن المعروف اقتصادياً أن قرار رفع أسعار الفائدة سيؤدي بطبيعة الحال إلى ارتفاع في سعر صرف الدولار مقابل العملات الأخرى، وبالتالي زيادة أسعار الصادرات الأمريكية، لا سيما في ظل السياسة المالية التقييدية والعبء الناشئ عن تطبيق قانون الرعاية الصحية (مشروع أوباما الأساسي)، والذي سيعني إمكانية تخفيض الطلب عليها والتأثير بصورة سلبية على الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، بكل ما يعنيه ذلك من تخفيض الطلب العالمي ووضع الاقتصاد الأمريكي في حالة تنعكس تلقائياً بزيادة حالة الفوضى في الاقتصاد العالمي.

ولا يمكن هنا أن ننسَ كاقتصاديين ما أدت إليه (سياسة الدولار القوي) في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، والتي كان وراءها ما وراءها في عهد جمهوري كان الدولار فيه يمثل في تلك المرحلة رمزاً لقوة أمريكا على حساب التأثيرات الاقتصادية، قبل النكوص بكل ذلك عندما غدا (النمو الاقتصادي الأمريكي) الضحية الأخطر لهذا الدولار القوي، بعد أن كان انتشاله من تحت الصفر أحد إنجازاته.

فمن المعروف أنه مع تسلم (رونالد ريغان) الرئاسة الأمريكية وعودة اليمين المحافظ إلى الإدارة الأمريكية في عام /1980/، قام الفريق الاقتصادي بقيادة كل من وزير الخزانة (جيمس بيكر) ورئيس المصرف المركزي (فولكر)، بتبني سياسة اقتصادية (اقتصاديات جانب العرض) تعتمد، في الوقت نفسه، على التوسع في الموازنة (سياسة مالية توسعية) والحد من التوسع النقدي (سياسة نقدية تقييدية)، فانخفضت الضرائب المباشرة وزاد معدل الخصم، وبالتالي معدلات الفائدة التي تمنحها المصارف الأمريكية.

وقد انطلقت سياسة (اقتصاديات جانب العرض) في ذلك الوقت من وجوب أن تقوم الدولة بمساعدة القطاع الخاص على زيادة عرض السلع والخدمات بدلاً من أن تجهد في زيادة الطلب الكلي؛ ويتم ذلك بتخفيض الضرائب على الأفراد ورجال الأعمال، وكذلك التخفيض في الأنظمة الفيدرالية غير المنتجة في مجالات مراقبة التلوث والفعاليات الاجتماعية وغيرها، ومن شأن كل ذلك خلق ارتفاع في النمو الاقتصادي لدرجة تؤدي إلى ارتفاع في الحصيلة الضريبية الإجمالية للضرائب المنخفضة.

إذن فالأدوات الاقتصادية المستخدمة حالياً بالتوازي مع إجراء رفع الفائدة الذي يماثل الشق النقدي "المُقيِّد" من سياسة (ريغان) الجمهورية القديمة، هذه الأدوات الأخرى تقع على تضاد مع نظيرتها المالية "التوسعية" في سياسة (اقتصاد جانب العرض) تلك.

وإذا ما أخذنا تركيز هجمات الحملات الانتخابية للجمهوريين حالياً على قانون الرعاية الصحية والأعباء الأخرى المفروضة على رجال الأعمال وكبريات الشركات، في إطار مشروع إدارة (أوباما) الأوسع الموسوم بالنمو المتوازن على النطاق العالمي، فإن احتمالات انعكاس فشل هذا التوازي وتأثيره سلباً على المؤشرات الاقتصادية الأساسية للاقتصاد من المتوقع أن يؤدي في حال انتصار مرشح جمهوري إلى الحفاظ على ارتفاع أسعار الفائدة، مقابل النكوص عن إنجازات (أوباما) التي شكلت مثار فخره في ما يتعلق بمساندة الطبقة المتوسطة صحياً وضريبياً على حساب النخبة الاقتصادية.

 ولكن هل الجانب الاقتصادي هو كل المسألة؟؟، وهو كل ما يمكن قوله؟؟!!

بالعودة إلى التاريخ مجدداً في إطار (إدارة ريغان) نجد أن السلطات النقدية الأمريكية لم تكن ترمي من خلال سياسة الفوائد المرتفعة إلى تحقيق أغراض داخلية فقط: كأداة للحد من تزايد الكتلة النقدية بهدف مكافحة التضخم نظراً للصلة الوثيقة بين الكتلة النقدية والأسعار حسب (مدرسة شيكاغو) النقدية، وحماية سعر صرف الدولار، بل إن هذه السياسة كانت تشكل في الوقت نفسه تعبيراً مباشراً عن الطلب المتزايد على النقد في الأسواق المالية والنقدية، حيث سعت الولايات المتحدة من خلالها إلى تعبئة المدخرات العالمية وجذبها ووضعها في خدمة المصالح المالية الأمريكية، سواء في أسواق الاستثمار العادية أو لتغطية عجز الميزان التجاري الأمريكي الذي كان قد تفاقم بحدة في السنوات الأخيرة، أو لتغطية عجز الموازنة الأمريكية الهائل نتيجة الإنفاق الضخم المخصّص لأغراض التسلح وبرنامج (حرب النجوم) العسكري، الذي أنهك السوفييت في مجاراته نظراً لوضعهم الاقتصادي المتردي حينّذٍ،حيث توافقت سياسة الدولار القوي مع حاجة الخزانة الأمريكية لتمويل متزايد لأغراض التسلح، والتي لم يكن بالإمكان تغطيتها عن طريق الضرائب لأسباب سياسية واقتصادية، فكان الحل الأمثل وربما الوحيد أمام الخزانة الأمريكية لتغطية عجزها في الموازنة هو في اللجوء إلى الاقتراض الدولي وإحلال المدّخر العالمي محل دافع الضرائب في تمويل الموازنة الأمريكية. ولا ننسى أن برنامج (حرب النجوم) مع ملف (أفغانستان) شكلا أسباباً مادية ومعنوية وعسكرية واعتبارية ساهمت في وقت لاحق في تسريع انهيار الاتحاد السوفيتي.

وهكذا فإن محاولة تقديم قراءة سياسية لما وراء القرار برفع أسعار الفائدة مع يقيننا بعدم وجود متطلبات داخلية ملحة لها، لن يكون صعباً في حال إجراء مقارنة بين وضع الاتحاد السوفيتي في بداية الثمانينيات ووضع (روسيا الاتحادية) حالياً، فهذه الأخيرة متورطة بملف سوريا وقد دخل اقتصادها في مرحلة إجهاد نتيجة العقوبات والتردي في أسعار النفط التي لا تقع عوامل تحديدها بعيدة عن السطوة الأمريكية، ليكون رفع أسعار الفائدة مجرد باب مفتوح لتأمين مصب آمن في اقتصاد عالمي قلق لحركة رؤوس أموال لن تتردد في أن تخدم الأمريكيين مجدداً ضد ندهم الدولي اللدود، كما خدمتهم أول مرة.

ترك تعليق

التعليق