تعرف على العقل المدبر لأشهر وثائقيات الثورة السورية

سئل نابليون كيف استطعت أن تولد الثقة في نفوس أفراد جيشك؟، قال: كنت أرد بثلاث على ثلاث، من قال: لا أستطيع, قلت له: حاول، ومن قال: لا أعرف, قلت له: تعلم، ومن قال: مستحيل، قلت له: جرب.

كان حافزه الدائم البحث عن الحقائق، وزاده الذي لا ينفذ إرادة ممزوجة بمنهج علمي، وحب لوطن ليس ككل الأوطان، إنه "محمود الكن"، ولد في مدينة حمص، انتقل مع عائلته ليعيش في كندا وهناك أكمل دراسته ليحصل على شهادة البكالوريوس في هندسة الكمبيوتر إضافة إلى الماجستير في إدارة الأعمال.

مواهبه بدأت تتفتح في نشاطات بعيدة نظرياً عن دراسته الأكاديمية، في العمل المسرحي تمثيلاً وإخراجاً، الأمر الذي فتح له بوابة أخرى هي عالم الإذاعة، عندما طُلب منه وزملائه الانضمام لفريق الراديو، فقدم برنامجاً ثقافياً اسمه "ليالي يا مال الشام"، وقد أسس مع زملائه "اتحاد الطلاب السوريين" في الجامعة، وأضحى الاتحاد من أهم مؤسسات السوريين في "مونتريال"، ولا يزال يعمل حتى الآن، وهو منفصل تماماً عن اتحاد طلبة سوريا التابع لحزب البعث.

قصة محمود بدأت بأسئلة بسيطة، غيرت مجرى حياته، فشغف محمود بالصحافة الاستقصائية بدا جلياً في تغطيته لموضوع مهم عن الشؤون القنصلية الكندية، لذلك تمت استضافته كثيراً على قنوات تلفزيونية كندية وغيرها، في عمر مبكر.

مع بزوغ فجر الثورة السورية، انتقل محمود إلى التدريب في مركز قناة "الجزيرة" القطرية.

غادر سوريا جسداً لكن قلبه استودعه في حمص، فغيابه عن بلده لم يفقده الارتباط بها، وكما يقول "نحن أصحاب قضية عادلة".

وكان على موعد مع حمص، ولكن هذه المرة، كان اللقاء حزيناً على غير العادة، في مجزرة الحولة التي وقعت في 25 مايو/أيار 2012، وراح ضحيتها أكثر من 100 مدني بينهم كثير من النساء والأطفال.

قرر أنه لا بد من أخذ زمام المبادرة، وأحدث الفرق أنه فكر في الموضوع من زاوية مختلفة غير الحزن وانتظار المجتمع الدولي والعربي ليتحرّوا في المجزرة ويظهروا الحقيقة.

في ذلك الوقت أشار عليه أحد الأصدقاء بمقابلة أحد وجهاء الحولة الذي يعلم تماماً عن المجزرة، استمع إليه مطولاً، بدأ بسؤال الناس في المنطقة ووضع كل ما قالوه على الخرائط، كان السؤال المنطقي كيف يمكن للنظام أن يرتكب المجزرة والأمم المتحدة بجانبه وداخل سوريا؟

استوقفه موقع لقناة إعلامية شهيرة باللغة الإنجليزية، نشر صورتين للأقمار الصناعية، وتعليقاً لخبير يقول إن لقطتين تظهر فيهما آثار لحرق المحاصيل، وآثار مجنزرات، يومها سأل محمود نفسه السؤال التالي، إذا كان خبير أجنبي ينظر إلى صور من بلده ويستطيع عمل استنتاج مثل هذا، فهو ابن هذه المنطقة، ولديه دافع أكبر لمعرفة ما حدث.

طلب نفس الصور، التي كانت "متاحة تجارياً"، وبدأ بدراستها فوجد أن قوات النظام كانت تطوق المنطقة من كافة النقاط، ولأنه لم يكن خبيراً فقد استعان بخبراء، ومن هنا كانت البداية والتحدي، فعكف محمود مع فريق على دراسة الصور ومقاطعة الأدلة بمنهج علمي وبحثي استفاده من دراسته في الهندسة.

وفعلاً خرج الوثائقي إلى النور، "ما الذي حدث في الحولة؟"، الذي عرض على شاشة "الجزيرة" وخلص إلى نتيجة تحميل النظام السوري مسؤولية المجزرة، وتم إثبات ذلك عبر صور الأقمار الصناعية، كيف حاصر جيش النظام القرية وتمت العملية تحت أنظاره، وبغطاء من قصف دباباته.

لقد بدأ بتحد بسيط وفوجئ بأن الأمم المتحدة أخرجت التقرير النهائي متوافقاً مع الوثائقي، فكانت نقطة تحول كبيرة في حياته المهنية.

لم يمض وقت طويل حتى كانت المجزرة التالية في داريا بتاريخ 26 أغسطس/آب 2012، والتي قتل فيها أكثر من 220 مدنيا بينهم كثير من الأطفال والنساء، وهنا وجد محمود نفسه في تحد جديد وأن من الواجب أن يقدم شيئاً لهذه الثورة العظيمة.

عمل مع فريقه فريق آخر من ناشطي داريا بصدق وجد، وبهمة عالية، لقد كانوا أساس العمل، استخدم فريق العمل نفس المنهجية في تحليل صور الأقمار الصناعية وبالطبع الخبراء، لكن كان هناك سؤال جوهري طرحته إحدى الزميلات في الفريق كيف يمكننا إثبات أن القصر الجمهوري يمكنه رؤية داريا وهو على بعد كيلومترات من المجزرة؟

بعد أن أثبت محمود والفريق وجود أشخاص في القصر في نفس توقيت المجزرة كان السؤال الذهبي الذي حرك القصة، فعادوا للحسابات الرياضية للأفق فوجدوا أن ذلك ممكن، وهذا كان سر النجاح، الاستماع لجميع أعضاء الفريق، فالعقل الجمعي يفكر بشكل أفضل من أي فرد إذا ما عمل بشكل صحيح، وخلص الوثائقي الذي عرض على شاشة "الجزيرة" في أكتوبر/ تشرين أول من عام 2012 إلى نتيجة مفادها أن ساكني القصر الجمهوري استطاعوا يوم المجزرة رؤية كافة الأحداث التي جرت.

أخذ العمل صدى كبيراً وأطلق السوريون اسمه على اسم الجمعة الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2012، لتصبح جمعة "داريا أخوة العنب والدم"، ولتكون الجمعة الوحيدة في الربيع العربي الذي تسمى على اسم وثائقي.

المجازر لا تنتهي في عالم الطغاة فالطامة الكبرى كانت مجزرة الكيماوي في الغوطة الدمشقية التي حدثت في 21 أغسطس/آب 2013، توقف محمود لبرهة، فالمصاب جلل وإعلام النظام اتهم المعارضة بذلك، والأمم المتحدة قالت هي لا يعنيها من الفاعل بقدر ما يعنيها أن الكيماوي قد استخدم، فكان لابد من وثائقي يظهر كيف تم إطلاق الصواريخ ومن أين؟، ولكن هذه المرة كانت أصعب فهو موضوع جديد وسلاح كيماوي.

لذلك رغب محمود في أن يكون بحثه بشكل علمي دقيق، فاستفاد من تقرير الأمم المتحدة وكيف تم العمل فيه، وفعلاً شكل فريقاً في الغوطة وبدأ التعاون لأخذ القياسات للصواريخ التي وجدت بقاياها في أرض المنطقة، واستعانوا بخبير للصواريخ عمل مع شركة متعاونة مع وكالة الأبحاث الفضائية ناسا, كان هناك فرضية هامة جداً، هي أنه بالإمكان وجود اختراق في النظام أعطى أمراً بإطلاق الصواريخ لتوريطه بوجود الأمم المتحدة، لكن استنتاج الوثائقي كان وجود أماكن متعددة للإطلاق مما يعني زيادة في التنسيق على مستوى عال، وتبعه غارات جوية, وأن تنفيذ العملية أتى من أعلى الرتب العسكرية ولم يكن مجرد اختراق في الجيش، كما كانت الشكوك في ذلك الوقت.

كانت وجهة نظر محمود من زوايا جديدة وعدم وضع الأعذار، والمعوقات هي دوماً طريقه للنجاح، والسؤال الأهم لماذا نستعين بخبراء غربيين دائماً ليشرحوا لنا ما حدث في أرضنا، لماذا لا ننتزع نحن زمام المبادرة؟

وكانت النقلة النوعية ليحقق محمود طموحه حين سأل نفسه، لا بد في هذه الظروف أن يجد خلفية أكاديمية يستند عليها بدل التعلم عن طريق التجربة فقط، وسأل أحد الخبراء عن دورة في مثل هذا المجال، فأشار عليه بالتقدم للماجستير في المعهد الملكي في لندن لدراسات الحروب، وفعلاً تقدم محمود إلى المعهد الملكي وتم قبوله، ثم التحق بدراسته.

أيقظت دراسته في المعد الملكي، "دراسات الحروب"، اهتماماً قديماً وهو النووي الإيراني، فعكف على عمل الحسابات الرياضية لبرنامج إيران النووي، واكتشف أن إيران على بعد ثلاثة أشهر نظرياً من إنتاج القنبلة النووية الأولى، أخذ الدراسة وتوجه إلى كبار الباحثين وأقر له بأن النتيجة سليمة نظرياً وأن التطبيق العملي سيحتاج ثلاثة شهور إضافية فكانت مفاجأة جديدة أعطت صدى كبيراً، إذ لم يسبق لأحد من العالم العربي أن قام بهكذا دراسة، وفي بداية عام 2015، أعد محمود تقريراً عن هذا الموضوع وبث على قناة "الجزيرة".

اليوم، محمود كلل مسيرته بحصوله على شهادة الماجستير في دراسات الحروب من المعهد الملكي في لندن، "وهي شهادته الثالثة"، والذي يعد أحد أفضل عشرين جامعة على مستوى العالم، ليتوج مسيرة نجاحه، وليكون بذلك من النادرين الذين يملكون هذا التخصص في العالم العربي.

وكان لابد من أن نتحدث مع أستاذة محمود، الإعلامية في قناة "الجزيرة"، خديجة بن قنة:

"بداية أهنئ الزميل محمود الكن على هذا الإنجاز الأكاديمي الكبير، وهو بهذا لم يفاجئنا بشيء فقد كانت علامات التميّز والنجاح مبشرةً من البداية عندما كان متدرباً عندنا في مركز الجزيرة للتدريب، وقد لفت انتباهي حينها شيئان: أولاً أنه لم يكن يشعر بالرهبة والخوف من الكاميرا وعندما سألته عن ذلك أطلعني على بعض مقاطع الفيديو على "يوتيوب" كان يظهر فيها محمود ضيفاً على قنوات تلفزيونية كبيرة مثل "بي بي سي".
وكان يبدو رغم صغر سنه واثقاً جداً من نفسه، والأمر الثاني هو إيمانه العميق بالثورة السورية وبعدالة قضية الشعب السوري وحقه في الحرية، وهذا كان أساس نجاح محمود في إثبات نفسه وقدراته بمجرد التحاقه بقناة "الجزيرة"، حيث نجح في إعداد برامج عن الثورة السورية وعن مجازر حدثت في بعض المدن بمهنية عالية".

واستطردت خديجة: "التخصص الذي اختاره محمود مهم جداً لأنه نادر، أولاً بسبب قلة الإقبال على هذا النوع من التخصصات في الدراسات الجامعية، وهو مهم أيضاً لأنه تخصص مناسب للمرحلة التي نعيشها في العالم العربي منذ حوالي خمس سنوات ميزتها الحروب والثورات والثورات المضادة وإرهاصاتها".

وفي سؤال لمحمود ما هي نصيحته لكل طموح؟، أكد أن من أهم الأشياء الاستماع للانتقاد والعمل عليه، فلقد قال له مدربه محمد كريشان مرة أنه يستعجل الوصول، يريد أن يكون مذيعاً، وهو لم يمر بالمراحل المطلوبة في الصحافة، أخذ كلام مدربه على محمل الجد، وعمل عليه.

وأشار إلى أنه مر بعثرات كثيرة، لكن تلك العثرات كانت تضيف إلى خبراته، عمل الفريق الجماعي كان كلمة السر، والاستماع والإنصات لآرائهم كان مفتاحاً للنجاح.

وختم محمود حديثه بهذه الكلمات: "لا تدع التفاصيل أبداً تغرقك لتضيع بوصلتك نحو الهدف، فكلنا قادر، ولكن كل في اختصاصه، فليبحث كلنا عن جانب هو فيه مبدع".

ترك تعليق

التعليق