"جلخ السكاكين".. مهنة تراثية تقاوم النسيان

كان مجلخ السكاكين والمقصات والأدوات الحادة الأخرى فيما مضى يحمل آلة عجيبة غريبة وهي عبارة عن دولاب ودواسة، فإذا دعست الدواسة دار الدولاب بقشاط جلدي وأدار معه حجر النار– المسن على خشبة مثبت قربها حجر آخر مشرّب بالزيت يدوس المجلخ فيدور الحجر وتمد السكين نصلها فوق الحجر فيتطاير الشرر ويأكل "حجر النار" الأطراف المتآكلة من سكاكين وخناجر.

 وكان المجلخ يتجول في القرى والبلدات منادياً بصوت رخيم: "مجلخ سكاكين، مقصات، مناجل"، وعند سماع صوته يخرج الأهالي من رجال ونساء وأطفال وهم يحملون سكاكينهم ومقصاتهم وأدواتهم الأخرى التي تحتاج لجلخ بعد أن تثلمت وأصبحت مزعجة في الاستعمال، أي لا تقطع أو تقص بسهولة، فيقوم المجلخ بسنها مقابل أجر زهيد وربما مقابل كيل طحين أو عدة بيضات –كما روى كبار السن لـ"اقتصاد"-.


و"المجلخ" اسم منحوت من الفصحى: "جلخ وجلّخ الموسى أي أرهفه وحدّده وصقّله"، وهي مهنة تراثية تعود إلى مئات السنين إذ رافقت صناعة السيوف والخناجر.

 وحول المجلّخ، ذكر القاسمي المتوفى عام 1900 في كتابه "قاموس الصناعات الدمشقية": "المجلخ هو من يصلح ما تثلّم من السكاكين بواسطة دولاب يعرف بـ"الجلخ" وهو مركب من ثلاثة عواميد".

وكان نداء المجلّخ في دمشق: (مجلخ سكاكين، مجلخ مواس، مجلخ مقصات)، وكلمة مواس، لفظة عامية مختصرة من أمواس ومفردها موس، وهي السكين الصغيرة التي تطوى.

وبعد هبوب رياح "العولمة" أصبح الجلاخون يستخدمون آلة، عبارة عن جهاز كهربائي (موتور يشبه المضخة)، مثبت عليه قرصان حجريان دائريان يجلخان أي أداة حادة تلامسهما.

 ولكل أداة حادة أحجار خاصة بها، "فالسكاكين والمقصات" تجلخ بحجر واحد ومرة واحدة، أما المسننات أو مقصات الماكينات الكبيرة فتمر بثلاث أو أربع مراحل، كل مرحلة منها تهيئ للمرحلة التي تليها.


قبل نشوب الحرب غزت الأسواق السورية السكاكين الصينية بأسعار زهيدة تقارب تكلفة "جلخ" السكين فلم يعد أغلب السوريين يرغبون بإعادة شحذ سكاكينهم وإعادتها للخدمة كما اعتادوا في الماضي، إلا قلة ممن يمتلكون ما يعتبرونه قطعاً نادرة سواء كانت سكاكين مطبخ أو مقصات أو غيرها.

"اقتصاد" التقى الحاج "أبو أيمن السيروان"، الذي يمارس مهنة الجلخ منذ أكثر من أربعين عاماً، ونقلها إلى الأردن حيث يعيش لاجئاً، فتحدث عن إقبال الناس على جلخ الأدوات الحادة قائلاً: "هناك إقبال لا بأس به من أصحاب المعامل وورشات الخياطة الذين يعتمدون على الأدوات الحادة كثيراً في عملهم، لكن في نفس الوقت يأتي من يريد أن يجلخ المقص والسكين الموجودة لديه، ورغم حداثة الأدوات الحادة إلا أن بعض الأسر في عمان كما في دمشق لا يستغنون عن جلخ الأدوات القديمة لأن هذه العملية أرخص بمئات المرات من شراء قطعة جديدة".

وحول كلفة الجلخ، أوضح محدثنا أن "هذا الأمر يختلف من قطعة إلى أخرى وتبعاً لحجم ونوع المعدن الذي تتكون منه هذه القطعة، إذ أن القطع المصنوعة من الفولاذ تحتاج لجهد أكبر من تلك المصنوعة من الحديد العادي"، ويشير الحاج سيروان إلى أن "هذه المهنة ليست سهلة كما يُخيل للبعض بل هي متعبة وتحتاج للحذر والدقة والمهارة في التعامل مع الآلات الحادة".


(الحاج الراحل رشاد حموي أقدم مجلخ في سوريا عمل في المهنة أكثر من 75 عاماً مع مجلخه التراثي -صورة خاصة بعدسة معد المادة)

ترك تعليق

التعليق