وريث شهبندر تجار سوريا.. "تاجر الثوم والبصل"

وصف نفسه في إحدى المواقف، بأنه "تاجر الثوم والبصل"، لكنه في عُرف كثير من السوريين، وريث شهبندر تجار سوريا، وبيضة قبان لدى السلطة، وأحد رموز تقاطع المال والنفوذ، في بلدٍ فقدت نخبته البورجوازية سدة الحكم، لكنها بقيت على صلة متينة به.

ورغم أن ثروته لا تتعدى 100 مليون دولار، حسب تصريحات صحفية له، إلا أنه ورث هيلمان ونفوذ والده في الوسط التجاري بدمشق، وعموم سوريا، دون أن ننسى شبكة العلاقات التجارية الوطيدة التي يمتلكها في بلدان عربية عدة.

راتب بدر الدين الشلاح، كلمة المرور لمجتمع الأعمال الدمشقي، وأبرز رموزه، ومكمن الكثير من أسراره وتسوياته مع نظام الأسد، في عهدي الأب والابن.

*رؤية جامحة

في الربع الثاني من القرن الماضي، قادت ثُلة من الأثرياء، سوريا التي نعرفها اليوم، نحو الاستقلال من الفرنسي، وأفشلت مخططات التقسيم، وتزعمت البلاد نحو نهوض اقتصادي مشهود له في الخمسينات.

فهل من المتاح لـ"راتب الشلاح" (لو أراد ذلك)، أن يكون بيضة القبان في جمع رجال أعمال وأثرياء سوريين في تحالف يسهم في رسم مستقبل سوريا، ويُقيلها من مأساتها التي هي فيها اليوم، كما فعلت البورجوازية السورية من قبل؟

في الإجابة قراءات عدة..

-القراءة الأولى

ترفض النظرية من أساسها، وتعتبر أن البورجوازية السورية اليوم عاجزة تماماً عن القيام بأي دور فاعل للتأثير في واقع البلاد، ناهيك عن مستقبلها، بعد أن جرّدها نظام الأسد الأب والابن، عبر عقود، من عوامل قوتها، وربط كل مكامن نفوذها، بخيوط سيطرته المطلقة.

فانقسم أثرياء سوريا بين ملتحقين بالنظام، بصورة لا انفصام لها، لأنهم انغمسوا في عالمه تماماً، ويتضح ذلك في فئة رجال الأعمال الموالين جهاراً نهاراً له، وبين رجال أعمال استطاعوا الانفصال عن النظام في بداية الثورة، نظراً لأن معظم استثماراتهم لم تكن في الداخل، واتخذوا مواقف مناوئة له بصورة علنية وواضحة.

-القراءة الثانية

تستغرب أن نتحدث عن دور لـ "راتب الشلاح" اليوم، إذ ترى فيه رجلاً ثمانينياً، بهت نفوذه كثيراً، خاصة بعد الثورة، وعدم اتخاذه موقفاً واضحاً منها، مما جعله موضع ريبة الطرفين، أنصار النظام وأنصار الثورة.

ويذكر هؤلاء بأن "الشلاح" يقضي معظم وقته في بيروت، ويدير مع ابنه، عمر، أعمال العائلة في سوريا وفي بلدان أخرى، عبر الهاتف، وقد اعتزل معظم المواقع التي سبق أن احتلها، بدءاً برئاسة غرفة تجارة دمشق التي غادرها عام 2008، وليس انتهاء برئاسة مجلس سوق دمشق للأوراق المالية.

ويستبعد هؤلاء أن يكون للشلاح أي دور مؤثر في صياغة مستقبل سوريا، عبر ائتلاف من رجال الأعمال والأثرياء، خاصة أن الأثرياء الفاعلين، والناشطين في العمل السياسي، هم إما من أنصار النظام في الداخل، وهم معروفون، وإما من المعارضين في الخارج، وهم أيضاً معروفون، أما أولئك الذين يقفون في الوسط، فلا دور أو تأثير لهم عملياً، حسب هذه القراءة.

-بين القراءتين

وبين القراءتين السابقتين، قراءة ثالثة، تجزم بولاء "راتب الشلاح" لنظام الأسد، وقد يذهب بعض القائلين بها إلى حد رمي الرجل بتهمة الانتماء الخفي للـ "الماسونية"، على غرار والده الذي جاهر بذلك.

*الشلاح.. اللغز

أما القراءة الرابعة، هي تلك التي ترى في "راتب الشلاح"، لغزاً غامضاً.

فالرجل الذي ترأس غرفة تجارة دمشق واتحاد غرف التجارة السورية لأكثر من 12 عاماً، لم يكن مُصدّراً أو مستورداً، وفقاً لأرقام وزارة الاقتصاد.

وكانت أموال "الشلاح" في المصارف أو البورصة، ولم يرد اسمه على قوائم وزارة الاقتصاد، من مصدرين أو مستوردين، حتى العام 2012.

أي، رغم الاسم العريق لـ"راتب الشلاح"، كعقلية تجارية فذة، لم يكن الرجل تاجراً وفق السجلات الرسمية، بخلاف العشرات من نُظرائها في مجتمع الأعمال السوري.

*أخطبوط من الأنشطة

في العقد الأول من الألفية كان "راتب الشلاح" الرئيس الفخري ورئيس إدارة المؤسسة السورية للأعمال مركز (SEBC) الممول من الاتحاد الأوروبي، وكان يشغل منصب رئيس مجلس إدارة سوق دمشق للأوراق المالية كما يُعتبر هو المؤسس الحقيقي لما يُسمى بورصة دمشق، ورئيس بنك سورية و المهجر، وفي العام 2010 قام البنك المذكور بأضخم صفقة لبيع الأسهم في بورصة دمشق دون ذكر أي تفاصيل.

وكان "راتب الشلاح" أيضاً، رئيس مجلس إدارة مركز الأعمال السوري الأوروبي.

إحدى الأنشطة الاستثمارية المعروفة عن "راتب الشلاح"، أن ابنه "عمر"، يملك وكالة سيارات "نيسان"، فيما يملك الأب معملين (واحد لتكسير بذور المشمش وآخر للحرامات)، من رأسماله الذي لا يرقى لمستوى المتوقع، إذ يقول "الشلاح" في إحدى تصريحاته الصحفية، "ليس لديّ مئة مليون دولار ولكن معي أكثر من مئة ألف".

*نفوذ خفي يتجنب العلنية

اتسم سلوك "راتب الشلاح" بأنه لا ينتقد الحكومة ولا أداء الحكومة، ولم يقف في وجه أي قرار اقتصادي، وكانت علاقته برامي مخلوف جيدة، لكن العارفين بخفايا وبواطن مجتمع الأعمال السوري، يؤكدون أن كلمة "راتب الشلاح" مؤثرة في أي قرار اقتصادي حكومي، في حال أراد التدخل.

بل يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، ويعتقدون أن أسماء من قبيل، رامي مخلوف، راتب الشلاح، وحسان الحجار (أكبر مُصدّر نسيج في سوريا وشريك سليم دعبول)، وهاني عزوز (المُصدّر رقم واحد في سوريا في مجال الأخشاب والورق)، كل هؤلاء كانوا فوق القرار الاقتصادي لحكومة ناجي عطري - وعادل سفر- ولاحقاً رياض حجاب (قبل انشقاقه)، وهم أنفسهم الذين كانوا يملون على بعض الحكومات إصدار المراسيم أو القرارات الاقتصادية وكانت الاستثناءات تصدر لأجلهم ولأجل مصالحهم، وكان رؤوساء الحكومات يتوصلون لحلول وسط لصالح هؤلاء الأشخاص ليس كقيمة مضافة على الاقتصاد وإنما خارج الصفقة.

*شبه مع شخصية حافظ الأسد

يقول المقربون من "راتب الشلاح" إنه ضد التغيير ويكرهه وكان عندما يضع موظفاً (قراره يشبه قرار حافظ الأسد) فإن هذا الموظف لا يقال من منصبه أو يتغير.

ويعتمد "الشلاح" في اختياره للأشخاص الذين يعملون معه والمقربين منه على مدى امتلاكهم لصفة الولاء في المرتبة الأولى، وكان يختار الأشخاص بصعوبة ومعروف عنه أنه شخص مُتحدث ومدير جيد ولا يحب المحاسبة للأشخاص الذين يعملون معه.

*الأب الذي أهدى ابنه بالقسوة نجاحاً

كان لشخصية الأب، "بدر الدين الشلاح"، أكبر الأثر في تكوين شخصية الابن، "راتب".

فقد كان الأب جازماً حازما في دفع ابنه للاعتماد على نفسه، وباستثناء الحرص على تأمين أفضل تحصيل علمي له، كان الأب، "بدر الدين"، حريصاً على أن يعمل ابنه منذ الصغر، لأربع عشرة ساعة يومياً، في مجال الصناعات الغذائية، في مزرعة الأب في "جرمانا"، خلال عطلة الصيف.

وحرص الأب على تمهيد الطريق لابنه "راتب" كي ينال أفضل تحصيل علمي ممكن، وصولاً إلى "أكسفورد" في بريطانيا، حيث نال شهادة الاقتصاد والإدارة ومن ثم الماجستير، انتهاء بالولايات المتحدة، حيث حصل على درجة الدكتوراه في المالية والمصارف، عام 1961.

بعد نيل الدكتوراه، عاد "راتب الشلاح" ليُدرّس في الجامعة الأمريكية في بيروت، وباتت أيام أسبوعه مقسومة بين دمشق وبيروت، حيث كان يعمل في دمشق لدى والده وعمه (بدر الدين وشفيق)، وحينما أراد "راتب" الاستقرار في لبنان، اعتذر والده عن تقديم أي معونة مالية له، ودفعه للاعتماد على نفسه في بيروت، وهو ما اعتبره "راتب"، لاحقاً، أعظم هدية أعطاها له والده، إذ كان ذلك دافعه لبناء نفسه وتكوين ثروته الخاصة.

*شهبندر تجار سوريا

وينسب مراقبون هذه الهالة التي تُحيط بشخصية "راتب الشلاح"، إلى شخصية والده، "بدر الدين"، الذي كان حجر زاوية في بناء مجتمع الأعمال الدمشقي لأكثر من ربع قرن، حتى وُصف بـ "شهبندر تجار سوريا".

وباستثناء مجاهرته بالانتساب للماسونية في عهد لم تكن النظرة إلى تلك المنظمة السريّة بهذه السلبية السائدة اليوم، يبدو أن ما يُحيط بـ"بدر الدين الشلاح"، ترجيحات، أكثر منها حقائق مؤكدة.

من أشهر الترجيحات، التي يجزم بها الكثير من الدمشقيين أنفسهم، دور "بدر الدين" في إفشال إضراب ضخم كان كبار تجار دمشق ينوون القيام به احتجاجاً على مجازر الأسد الأب في حماه.

ويعتقد الكثيرون أن "بدر الدين الشلاح"، بوزنه الكبير في أوساط التجار، "مان" عليهم بالصمت، يومها.

ويروي بعضهم عن علاقة وطيدة كانت تربطه بالأسد الأب، ينسبها البعض إلى "أخويتهم المشتركة في الماسونية". لكن لا أدلة تؤكد ذلك.

*سليل أسرة عريقة

في نهاية عقد التسعينات، رحل "بدر الدين الشلاح" عن 94 سنة، وطوى معه ملفاً ضخماً من الأسرار عن علاقته بآل الأسد، ومسيرة حافلة في عالم الأعمال الدمشقي، حيث قاد غرفة تجارة دمشق قرابة النصف قرن، وكان من أبرز التجار الذين مروا على غرفة التجارة منذ تأسيسها في 20 أيار 1891.

وينتسب "راتب" ووالده "بدر الدين"، إلى أسرة اشُتهرت بتجارة الفواكه والمجففات (قمر الدين) مع الدول المجاورة. وعُرف "بدر الدين" بمواقفه المدافعة عن مصالح التجار خلال الفترات العصيبة التي مرت بها البلاد، والتي نالت من طبقة التجار تحديداً.

وعُرف عنه، انتقاده لـ"جمال عبد الناصر"، وسياسات التأميم التي تابعها "حزب البعث" لاحقاً. وقد أحاطه حافظ الأسد برعاية خاصة، كما يصف المقربون منهما، حينها.

*قولان في "الشلاح والثورة"

ينقل إعلاميون عن "راتب الشلاح" أن موقفه تبدل من "انتفاضة السوريين"، وخاصة بعد "أسلمتها" وسيلان الدم.

بل يذهب بعضهم إلى أنه من أوائل من دعم الحراك السلمي والثورة في بداياتها، وكان من أهم من دفع للحل السياسي من خلال مبادرة "الضمير".

إذ تم تسريب أن ابنه "عمر" كان جزءاً من مبادرة تدعى (مبادرة الضمير) حاول فيها حشد عدد من الشيوخ والعقلاء ليكونوا وسطاء بين النظام والمعارضة، إلا أن أحداً من كلا الطرفين لم يستمع إليهم.

لكن آخرين يجزمون بولاء "راتب الشلاح" لنظام الأسد، وإن كان هذا الولاء موارباً، كي لا يُحتسب على النظام في حال سقوطه.

*لغز وإيحاء

في نهاية المطاف، يبدو أن الحقائق المتاحة حول شخص "راتب الشلاح"، أقل بكثير من التأويلات والأقاويل، الأمر الذي يُتيح لهذا الرجل، وهو الذي تجاوز الثمانين من عمره، وخبا بريقه كثيراً، أن يبقى لغزاً مُحيّراً، يُثير مخيلة فئة الحالمين بألق جديد يمكن أن يُضيء من البورجوازية الدمشقية العريقة، يُعيد لها دوراً لعبته باقتدار في تاريخ سوريا القريب، حينما شهد التاريخ ولادة هذا البلد الذي نعرفه.

ترك تعليق

التعليق