موفق القداح: رجل الأعمال الذي أراد أن يكون ذا شأن عند بشار الأسد


في 17 كانون الأول من عام 2006، زار بشار الأسد الإمارات العربية المتحدة للمرة الثالثة منذ وراثته السلطة في سوريا، وكان قبل ذلك التاريخ قد زارها لمرتين، في نهاية العام 1999، وبداية العام 2001..

 إلا أن زيارته الثالثة، وبحسب مراقبين، كانت هي الأهم خارجياً في ذلك الوقت، فهي جاءت بعد أحداث خطيرة عصفت بالنظام، أبرزها اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في العام 2005، وما تبعه من أحداث دراماتيكية أدت لانسحاب القوات السورية من لبنان..

ومن ثم جاء بعد ذلك التاريخ ما يسميه النظام السوري بعدوان تموز على حزب الله من قبل اسرائيل في العام 2006، وخطاب بشار الأسد الشهير الذي اتهم فيه القادة العرب بأنهم أنصاف الرجال لأنهم حمّلوا المسؤولية لحزب الله في هذه الحرب..

أيضاً من بين الأحداث التي رافقت تلك الزيارة، أن البلد كانت تعاني من ضغوط اقتصادية كبيرة.. ففي ذلك العام تحولت سوريا ولأول مرة منذ أكثر من عقد، إلى مستورد لمادة القمح.. عندما قامت حكومة عطري ببيع مخزون البلد الاستراتيجي من القمح بعد تقارير من وزارة الزراعة والمؤسسة العامة لتصنيع الحبوب، تفيد بأن القمح المخزن والمقدر في ذلك الوقت بأكثر من 3 ملايين طن، معرض للتلف نتيجة عدم وجود صوامع كافية لتخزينه، بالإضافة إلى أن إنتاج البلد من القمح المروي يغطي احتياجاتها السنوية حتى في حالة الجفاف.. غير أن الأقدار شاءت أن تتحول سوريا إلى مستورد للقمح بعد أول موسم جفاف..

لذلك كان من أبرز أهداف تلك الزيارة هو الطلب من الإمارات مساعدة سوريا في شراء حاجتها من القمح، وهو بالفعل ما حدث حيث أعلنت الإمارات عن تقديم نصف مليون طن من القمح كهدية للشعب السوري.

كذلك تميزت تلك الزيارة أنها المرة الأولى التي يطلب فيها بشار الأسد الاجتماع برجال الأعمال السوريين في الإمارات.. وقد جرى تنسيق عالي المستوى لهذا الاجتماع قبل الزيارة.. إذ قامت السفارة السورية في أبوظبي، بالاتصال بعدد كبير من رجال الأعمال ودعوتهم إلى الاجتماع مع بشار الأسد، كما طلبت منهم الحديث بصراحة عن رؤيتهم لمستقبل سوريا الاقتصادي وما يخشونه في حال طلب منهم الاستثمار في سوريا.
 
كانت سوريا في ذلك الوقت، تخطو خطواتها الأولى نحو مفاهيم اقتصادية جديدة، رأى فيها كثيرون أنها ملتبسة.. فالحديث عن الانفتاح الاقتصادي والتحول نحو اقتصاد السوق، لاقى انتقادات واسعة وهجوماً شرساً من قبل المؤسسات الحزبية، والتي اعتبرت أن ذلك يخالف الدستور الذي يصف النظام في سوريا أنه اشتراكي.. لذلك تم إضافة كلمة اجتماعي لعبارة اقتصاد السوق، من أجل امتصاص غضب تلك الفئات المعترضة..

 ومن جهة ثانية كان نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، مهندس الخطاب الاقتصادي الجديد، عبد الله الدردري، قد أنجز كل القوانين والتشريعات التي تهيئ لعملية الانفتاح الاقتصادي، كإصدار قانون يسمح بافتتاح مصارف خاصة لأول مرة منذ أكثر من خمسين عاماً، كما تم تشكيل هيئة لدراسة إنشاء بورصة دمشق، كذلك قام بتعديل قانون الاستثمار رقم 10 بالقانون رقم 8 والذي منح المستثمرين تسهيلات كبيرة..

 غير أن كل تلك القوانين والتسهيلات لم تكن جاذبة للاستثمار في سوريا ولم تفلح بجلب مستثمرين خارجيين كما هو مأمول.. لذلك كانت الفكرة التي عمل عليها الدردري فيما بعد هي الاستفادة من رجال الأعمال السوريين المتواجدين في عدد من بلدان العالم ومن علاقاتهم مع المستثمرين العرب والأجانب، من أجل جلب الاستثمار إلى سوريا..

 وكانت الإمارات على وجه الخصوص، تضم العدد الأكبر من رجال الأعمال السوريين والأكثر ثراء..

كان الدردري يرد على منتقدي نظريته الاقتصادية التي زادت من مأوساوية الأوضاع المعيشية في البلد، بأن نظريته لن تنجح دون دخول الاستثمارات الخارجية إلى البلد.. ودخول هذه الاستثمارات يحتاج إلى ظروف سياسية غير التي تعيشها سوريا.. وبما أن النظام مصر على تحالفاته مع جماعة المقاومة والممانعة، فلا سبيل لجذب الاستثمار سوى بالاعتماد على رجال الأعمال السوريين بالدرجة الأولى.. ولأن هذه الفئة كانت تعاني من الاضطهاد داخل سوريا ما اضطرها للبحث عن العمل والنجاح خارج بلدها، فإنه على النظام أن يغير من نظرته لرجال الأعمال السوريين وأن يمد لهم يده ويفتح معهم صفحة جديدة ويحاول أن يطمئنهم ويبدد مخاوفهم..

لذلك كان اجتماع بشار الأسد مع رجال الأعمال السوريين في الإمارات، بمثابة نقطة تحول، نجح من خلالها في إقناع أبرزهم بالاستثمار في سوريا.. كما قام بشار بتوزيع رقم مكتبه الخاص على رجال الأعمال للاتصال به مباشرة في حال اعترضتهم أي مشكلة، ولكي يتأكدوا من صدق نيته وبأن النظام جاد في فتح صفحة جديدة..

وبالفعل لم تمض أشهر حتى بدأ رجال الأعمال السوريين في الإمارات بالتوافد إلى بلدهم، وقام النظام بعقد ملتقى لهم في دمشق برفقة عدد من رجال الأعمال الإماراتيين حضره "غرهارد شرويدر" المستشار الألماني السابق.

من بين رجال الأعمال الذين تابعوا بنهم تلك الاجتماعات واللقاءات، كان رجل الأعمال السوري، وابن درعا، موفق القداح.. حتى قيل أن أنظار النظام منذ البداية كانت مسلطة على هذا الرجل على اعتبار أن "فوربس" صنفته في ذلك العام ضمن أغنى 100 رجل أعمال عربي، وكان السوري الوحيد في القائمة بحجم ثروة تجاوزت المليار دولار..

كان موفق القداح الذي بدأ حياته في الإمارات وهو يقود دراجة هوائية، مالبث أن تحول إلى أهم رجال الأعمال هناك، مستفيداً من الطفرة العقارية التي شهدتها البلد والتي أوصلته في النهاية إلى عقد شراكة مع "إعمار" العقارية الإماراتية، أحد أهم شركات العقار في العالم.. وهو مازاد من حجم ثروته ومن سمعته عربياً ودولياً..

في ذلك الاجتماع مع بشار الأسد والذي ضم أكثر من 100 رجل أعمال سوري في الإمارات، تحدث الجميع علناً عن مخاوفهم وعن مطالبهم: غسان عبود، وليد الزعبي، رمضان مشمش، خالد المحاميد..الخ،  باستثناء موفق القداح الذي ظل صامتاً، وكان الشخص الوحيد الذي اختلى به بشار على انفراد..

في زيارته الأولى إلى دمشق بعد ذلك الاجتماع، التقى موفق القداح مع بشار الأسد في جلسة استمرت ساعتين، وتناولا طعام الغداء سوية.. وأعلن القداح بعد ذلك اللقاء مباشرة عن تبرعه ببناء سوق دمشق للأوراق المالية على طريق بيروت بمبلغ أكثر من 700 مليون ليرة، ثم ما لبث أن أعلن بعد ذلك التاريخ بقليل عن إطلاق مشروع البوابة الثامنة في الصبورة بالشراكة مع "إعمار" الإماراتية، وهو أضخم استثمار عقاري في تاريخ سوريا اقتربت تكلفته من النصف مليار دولار.. بالإضافة إلى إطلاق مشروع جامعة خاصة على طريق دمشق درعا الدولي.. وعدد آخر من المشاريع في دمشق ودرعا وغيرها من المدن.. مع عدد من التبرعات في محافظات طرطوس واللاذقية ومنطقة السيدة زينب..

كان موفق القداح هو الأقل انتقاداً لسياسة النظام الاقتصادية، كما أنه الأقل شكوى من الاجراءات البيروقراطية في المؤسسات الإدارية.. كونه حل هذه المعضلة من خلال شراكة لرامي مخلوف في عدد من الأعمال، على رأسها مساهمته في شركة "شام" العقارية.. كما أنه كان الوحيد الذي يتجرأ على الاتصال ببشار الأسد كلما اعترضته مشكلة..

وقد روى لي شخصياً، كيف أن محافظ دمشق في أحد المرات قام بتعطيل أحد مشاريعه والحجز عليه وتغريمه بمبلغ ضخم، ما اضطره للاتصال بأبو سليم دعبول الذي وصله مع بشار الأسد وتم حل المشكلة على الفور..

كذلك تعرض موفق القداح وغيره من رجال الأعمال، أبرزهم وليد الزعبي ورمضان مشمش، إلى مشكلة الحيازات الكبيرة من الأراضي الزراعية، والتي يحددها قانون الإصلاح الزراعي لعام 1958 بـ 5000 دونم كحد أقصى، بينما هم تجاوزوا هذه الحيازة بكثير، وقام محافظ درعا آنذاك، فيصل كلثوم، بالحجز على فائض الملكية لديهم.. ومرة أخرى اضطر موفق القداح للاتصال ببشار الأسد الذي تدخل وألغى قرار الحجز.. بينما قام وليد الزعبي ورمضان مشمش، فيما بعد، -كانا استفادا من تدخل بشار لصالح موفق القداح -، بتوزيع حيازاتهما الزائدة على أسماء أفراد أسرهم، خوفاً من تكرار الحجز مرة أخرى، لكن موفق القداح لم يجد نفسه مضطراً لهذا الأمر.. كونه على اتصال مباشر مع بشار الأسد..

لم يكن موفق القداح يخفي تذمره من اضطراره في كل مرة لإدخال بشار في مشاكله.. بينما كان يرى أن البلد بحاجة للكثير من "الشغل" لأن تصبح جاذبة للاستثمار.. لكنه ظل في قرارة نفسه راضياً عما استطاع تحقيقه داخل بلده، بدليل أن مشروع البوابة الثامنة كان بمثابة مشروع تجريبي له في سوريا، ثم ما لبث أن أتبعه بعدد كبير من المشاريع الكبيرة والمهمة..

عندما انطلقت الثورة السورية عام 2011 من درعا، قيل أن مكتب بشار الأسد اتصل بـ "موفق القداح" وطلب منه التوسط لدى أبناء مدينته.. وبالفعل جاء القداح على وجه السرعة إلى درعا قادماً من دول شرق آسيا التي كان يتابع فيها استثماراته.. وانضم إلى فيصل المقداد ورستم الغزالي، اللذين كانا ضمن وفد يحاول تهدئة الأوضاع في درعا..  لكن سرعان ما شعر موفق القداح بأن الأمر أكبر من قدراته وهو الذي لم يترك أي أثر طيب لدى أبناء مدينته بسبب أنه كان يعتبر نفسه عابراً للمناطقية وليس بحاجة إلى جسره المحلي لكي يصل إلى ما يريد..

التقيت في تلك الفترة بـ "موفق القداح"، وكان لا يستطيع أن يقول شيئاً.. فهو لا يملك إلا أن يقدم المال لإصلاح "ذات البين".. غير أن أبناء درعا في ذلك الوقت أعلنوها ثورة كرامة وليست ثورة جوع.. لذلك غادر موفق القداح، وقيل أنه التقى مع بشار الأسد وأخبره أن هناك أخطاء ويجب تلافيها وإلا فإن الأمور سوف تسير نحو الأسوأ.. وهو الأمر الذي لم يعجب بشار الأسد.. فانقطعت الصلة بين الرجلين نهائياً..

منذ ذلك التاريخ لم يُسمع عن "موفق القداح" أي قول أو فعل يستفز أطراف الصراع في سوريا، سواء المعارضة أو النظام.. لكن ظلت الإشاعات تطاله.. فهو اتُهم من قبل النظام في أول سنتين من عمر الثورة بأنه يقدم دعماً مالياً للمعارضة، وهو ما لم يثبت حتى الآن.. كما اتهم من قبل المعارضة أنه لازال على صلة مع النظام بدليل أن الأخير لم يسطو على أملاكه واستثماراته في سوريا، كما حصل مع رجل الأعمال "وليد الزعبي"..!!

بكل الأحوال، وختاماً، نستطيع أن نلخص العرض السابق، بأن موفق القداح ربما كان الأذكى بين رجال الأعمال في تعامله مع حدث الثورة السورية.. فهو لم يصدر عنه أي موقف سياسي، وعبّر عن حيادية منقطعة النظير بحيث أن محدثيه اليوم ينقلون عنه عدم رغبته في الخوض بأي رأي يتعلق بالموضوع.. بل يجابه كل حديث يخص الشأن السوري بالصمت..

وكرأي شخصي، لا أظن أن موفق القداح يلقى بالاً لاستثماراته في سوريا ويحاول أن يحافظ عليها من خلال موقفه الحيادي هذا.. فمشروع البوابة الثامنة باعه بالكامل وجنى منه أرباحاً طائلة.. وما بقي من استثمارات لديه في سوريا لا تشكل شيئاً بالمقارنة مع أعماله في دول شرق آسيا والإمارات ومصر وبعض الدول العربية..
 
وكان موفق القداح يعتقد أنه شخصية فوق عادية، ويسعى لأن يكون شخصاً شبيهاً برجال الأعمال المرموقين الذين يتسابق رؤساء الدول لاستقبالهم.. وقد كانت تجربته الأولى مع بشار الأسد، وعلى ما يبدو، أنها كانت الأخيرة..!!
 
ربما أدرك أن اللعب مع هؤلاء لا يقل خطراً عن اللعب بالنار.. لذلك هو اليوم متفرغ لأعماله بالكامل..

ترك تعليق

التعليق