حلب.. وتهاوي نظرية "سوريا المفيدة"


هل بشار الأسد جاد في العمل على استعادة كامل التراب السوري إلى زمام سيطرته، كما قال قبل بضعة أشهر؟، وفي هذه الحالة، لماذا يصرّ الأسد على استعادة كامل سوريا ولا يكتفي بـ "سوريا المفيدة" التي يسيطر عليها اليوم تقريباً؟، لماذا يتمسك نظام الأسد بالنقاط المتبقية له في دير الزور وفي الحسكة، وفي مناطق من درعا؟، ولماذا يصارع اليوم بشراسة لاستعادة كامل مدينة حلب، رغم أنه يسيطر فعلياً على الشطر الغني منها؟

ولماذا يدعمه الإيرانيون والروس في مساعيه تلك؟، لماذا لا يكتفي هؤلاء بالمساحة التي تخضع لسيطرتهم، ويستنزفون قدراتهم العسكرية والبشرية والمالية، في سبيل استعادة المزيد من مساحة سوريا؟

ما مبرر معركة حلب الجارية اليوم؟، وهل هي منفصلة عن حقيقة تمسك نظام الأسد ببقع سيطرته المحدودة في دير الزور والحسكة، ومناطق أخرى من التراب السوري؟

إن كان همّ الأسد، كرسي الحكم فقط، لماذا يريد كامل سوريا؟، وإن كان همّ إيران وصل العواصم الأربعة، طهران وبغداد ودمشق وبيروت، لماذا تسعى للسيطرة على حلب أيضاً؟، وإن كان همّ الروس يكمن في الساحل لقيمته الاستراتيجية العسكرية بالنسبة لهم، ولتواجد كميات مُتوقعة من الغاز والنفط قرب شواطئه، لماذا ينخرطون في معركة شرسة، ويجيرون لها أكبر استنفار عسكري في تاريخ روسيا، منذ حرب الشيشان، في نقطة بعيدة جغرافياً عن محيطهم الحيوي؟

لماذا يريد الأسد وحلفاؤه، كامل سوريا، أو أكبر قدر ممكن منها، ولا يكتفون بما يسيطرون عليه الآن، ما دامت هذه البقعة تُوصف بـ "سوريا المفيدة"؟

منذ أكثر من سنة، سادت نقاشات المراقبين تعبير "سوريا المفيدة"، وقِيل يومها أن نظام الأسد سيتشبث بتلك البقعة الممتدة من الساحل مروراً بوسط سوريا والقلمون، انتهاءً بدمشق وجنوبها.

لكن ما يظهر جلياً خلال الأشهر القليلة الماضية، أن نظام الأسد يتطلع، بالفعل، إلى أكثر من ذلك، أو يبدو، أن داعمَيه، الإيراني والروسي، يريدان أكثر من ذلك.. فلماذا؟

هل لتلك المساعي بُعدٌ اقتصادي، أم أن البعد الوحيد هو الاستراتيجي – السياسي؟

بالنسبة لإيران، فهي حققت فعلياً ما سبق وأعلنته هدفاً لها، وهو الربط جغرافياً بين العواصم الأربعة، طهران، بغداد، دمشق، بيروت، فالطرق سالكة بين العواصم الأربعة.

أما بالنسبة لروسيا، فهي حققت هدفها شبه المعلن من انخراطها في سوريا، وهو إبقاء نظام الأسد صامداً..

فلماذا يذهبون إلى أبعد من ذلك؟، وما مبرر التكاليف البشرية والعسكرية والاقتصادية التي يخسرونها في تلك الحرب المستمرة، والتي لا يبدو أن أفقها سيتوقف قريباً؟

ربما نجد إجابات كثيرة على الأسئلة السابقة، بعضها يُفيد بأن أبعاداً آيدلوجية (مذهبية) تحكم السياسات الإيرانية في سوريا، وتمثل حلب بيضة قبان فيها.

فيما يُفيد الآخر بأن روسيا لم تحصل بعد على غايتها الحقيقية من انخراطها في سوريا، وهي مقايضتها بأوكرانيا، في اتفاق مُنتظر مع الغرب، وتحديداً، الولايات المتحدة الأمريكية.

فيما يرى ثالث أن روسيا تؤسس لوجود طويل الأمد في سوريا، حسب ما ترى قراءات إسرائيلية، مثلاً.

لكن، قلّة من المراقبين يقدمون إجابات اقتصادية للأسئلة سابقة الذكر، من قبيل، أن تلك البقعة التي يسيطر عليها نظام الأسد، برعاية إيران وروسيا، "غير مفيدة"، وأن "المفيد" من سوريا، فعلياً، يتواجد خارج الأراضي التي يسيطر عليها نظام الأسد.

فأكثر من نصف ثروة سوريا من القمح والقطن والزيتون والكثير من المحاصيل الأخرى، إلى جانب ما يقترب من نسبة 90% من ثروة النفط والغاز، وأكثر من نصف ثروات سوريا الباطنية الأخرى، هي خارج إطار "سوريا المفيدة". وتقع تحديداً في مناطق الجزيرة، ومناطق أخرى في الجنوب والشمال السوري.

ناهيك عن الأهمية الرمزية التي تحملها حلب، كعاصمة سابقة للصناعة السورية، وبوصفها قيمة اقتصادية، لكون جزء كبير من البرجوازية السورية، تتحدر منها، الأمر الذي يجعل المُسيطر عليها، صاحب الهيمنة المطلقة على تلك البورجوازية، أو من بقي منها في البلاد، ولم يهاجر، أو من يرغب بالعودة إليها، من تلك الطبقة.

بالمقابل، تضم "سوريا المفيدة"، الجزء الأكبر من الديمغرافيا السورية بنسبة قد تصل إلى الثلثين، وبموارد باطنية محدودة للغاية.

يظهر ذلك جلياً في العورات الاقتصادية التي بدأت تتكاثف في أداء نظام الأسد، وقضية تأمين الوقود اللازم لتشغيل محطات توليد الكهرباء، أكبر مثال على ذلك، وصولاً إلى دفع قيمة الفيول المُستورد بالتقسيط، ورفض السفينة التي تنقل الفيول في ميناء بانياس، تنزيل شحنتها، إلا على قدر ما يُدفع من ثمنها.

لا تُلبي الثروات النفطية المُتاحة للنظام السوري إلا 8% فقط من حاجات الديمغرافيا الخاضعة له. والباقي كان يجري تمويله من إيران، مباشرةً عبر خطوط ائتمانية سابقة، سرعان ما فرغ صبر إيران حيالها، ولم تكن مستعدة لتكرارها.

هكذا يمكن أن نفهم أن شعار "سوريا المفيدة"، الذي رفعه النظام بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، منذ أكثر من سنة، ثبت بطلانه في التطبيق العملي. ففصل الساحل ووسط سوريا وجنوبها، عن عمقها الشمالي والشرقي يُفقدها أبرز مواردها الطبيعية والباطنية، ويجعلها فارغة من أي موارد ذات قيمة حقيقية.

مما يجعلها عبئاً اقتصادياً على ممولي استمرارها.

بمعنى آخر، فإن أحلام الأسد بجيب سوري يُديره، بمنأى عن الغالبية السورية، أو على الأقل، بمنأى عن تلك المناوئة له، لا تتمتع بأي جدوى اقتصادية.

بكلمات أخرى، تقسيم سوريا، على الأقل، من جانب نظام الأسد، لا يحظى بمقومات اقتصادية، فالساحل ووسط سوريا، وصولاً لجنوب دمشق، ليست مساحات تقدم الموارد الاقتصادية الكفيلة بإعالة الديمغرافيا المقيمة فيها.

وهكذا يمكن أن نفهم لماذا تفاهم الروس والإيرانيون، بصورة غير مباشرة، مع الأتراك، على إجهاض مساعي الأكراد لوصل كانتون عين العرب بكانتون عفرين. فهم لا يريدون أن يستقل الأكراد بجزء كبير من ثروة سوريا الباطنية والطبيعية، على حساب نظام الأسد، الذي سيتحول إلى عبء اقتصادي عليهم، أي على الإيرانيين والروس. لذا فسوريا موحدة، تخضع لتقاسم نفوذ بين الأطراف المتصارعة، أفضل من كانتونات، لا تحظى بمقومات الحياة الاقتصادية، في الحالة العلوية مثلاً. هكذا يفكر داعمو الأسد، الذين باتوا غير مستعدين لتقديم المزيد من الخسائر المالية تحديداً، لصالح إبقاء نظام الأسد صامداً. لذا لا بُد من إيجاد موارد له في بقع جغرافية سورية أخرى غير تلك التي أسموها يوماً "سوريا المفيدة".

أما في حلب، فتعتمل المعركة على رمزيتها، المذهبية في الحالة الإيرانية، والاستراتيجية في الحالة الروسية، والاقتصادية في الحالتين، فهي موطن أنشط البورجوازيات السورية، والرغبة في وصل ما فُقد معها، لإعادة تحريك دفّة هذا الاقتصاد، أمر ضروري، إن كان الروس والإيرانيون يراهنون مستقبلاً على صمود نظام الأسد، كأحد مقومات سوريا المستقبل، على الأقل.

ترك تعليق

التعليق