سوريا وهولندا، والهرم المقلوب


في حوار مع صديق من اللاجئين السوريين في هولندا، لم أتحدث معه منذ أمد، فُوجئت ببعض المشاهدات التي قدمها لي عن طبيعة الفرد الهولندي. مشاهدات تخالف تلك التصورات السائدة في أذهاننا عن الإنسان الأوروبي.

وحسب ذلك الصديق، الذي كان يعمل في مجال اقتصادي بسوريا، فإن معظم الهولنديين لا يتمتعون بحسٍ مرهف، أو ذوقٍ عامٍ، عند التعامل مع الآخرين، وتغيب الدماثة عن كثير منهم.

بل ذهب ذلك الصديق إلى أبعد من ذلك، في توصيفاته، إذ رأى أن التزام الفرد الهولندي بالعمل، وبالقوانين، وبقواعد النظافة وسواها، ليس إلا نتاج الخشية من العقوبة القانونية في حال المخالفة، وليس حسن أخلاق منه. ومن خلال تجربته عبر العمل في عدد من المطاعم الهولندية، توصل إلى نتيجة مفادها، أن التزام تلك المطاعم بقواعد النظافة، نتاج الخشية من الغرامات التي تفرضها السلطات المختصة في حال ثبوت أي مخالفة. أما في حال عدم وجود خشية من عقوبة مالية أو قانونية، لا تظهر معالم الاهتمام بالنظافة في مطاعمهم، حسب وصفه.

وخلص الصديق في توصيف مشاهداته، إلى أن الإنسان الهولندي يلتزم قسراً بفعل القانون، وليس بدوافع ذاتية.

الصديق ذاته، أكد لي أن مشاهداته تلك في هولندا، يمكن تعميمها على كل أوروبا، حسب محادثات له مع أصدقاء سوريين كُثر، في عدة بلدان أوروبية.

وحينما سألت ذلك الصديق، إن صح ما تقول، فلماذا يتميز الفرد الأوروبي عموماً بالقدرة العالية على الإبداع والإنتاج العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، وأيضاً المعرفي؟، فأجابني بأن النخب المتحكمة ببلدانهم، صاغت نظاماً تعليمياً وإدارياً يبحث عن المواهب والكفاءات، ويحثّها على النمو، ويدعمها، على عكس ما هو سائد في مجتمعاتنا تماماً.

وأكد لي بأن الطفل، منذ سنوات دراسته الأولى، يتعرض لاختبارات تتعلق بالذكاء والمواهب، ويتم توجيهه على أساس ما يبرع فيه، وما يحبه، ويتم توفير كل العوامل المشجعة على الإبداع له. وحالما يُظهر أي فرد مهارة في جانب ما، يتم دعمه، وتشجيعه، للإبداع في هذا الجانب.

وخلص الصديق إلى أن النخب المتحكمة في بلدان الغرب، تدير بلدانها، وشعوبها، وفق معادلات تساعد على توفير أفضل الظروف للإبداع والإنتاجية العالية. لكنها في نفس الوقت، تقتل البعد الأسري والاجتماعي، وتجعل الفرد مُستلباً من جانب الدولة، التي تمتلك زمام أمره منذ وقت مبكر من طفولته وشبابه.

الخلاصة التي وصلت إليها في نقاشي مع هذا الصديق، أن النخب لديهم تمكنت من توفير أفضل الظروف لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من إمكانيات ومهارات أفراد الشعب. وفي نفس الوقت، طوعت ذلك الشعب للالتزام بقوانين وضوابط، تحقق أكبر إنتاجية ممكنة منه.

أما في بلداننا، فالنخب المتحكمة عكفت على استلاب كرامة الفرد، والنيل من مهاراته، ومحاربة المبدعين، وتعميم الفساد، والمحسوبية، والتلاعب بالقانون.

يعتقد صديقي، الذي فاجئني بمشاهداته وخلاصاتها، أن شعوبنا أفضل من نخبنا، فيما نخب الغرب أفضل من شعوبه. حيث تعمّ تلك الشعوب، شعوب الغرب، الكثير من مشاعر العنصرية والأفق الضيق والأنانية العالية، فيما تسود شعوبنا أخلاق أفضل بكثير، لو توفرت لها الظروف المناسبة، لكن نُخبها نالت منها.

بطبيعة الحال، يعبّر هذا الصديق عن نظرية سائدة في العلوم السياسية والاجتماعية، مفادها، أن النخب هي التي تُدير المجتمعات وتنهض بها، وليس عموم الناس. وتأتي النخب المُـتحكمة في رأس الهرم الاجتماعي عادةً، وهي التي تُدير الشأن العام، علناً، أو من وراء الستار. وهي التي تسير بمجتمعاتها نحو النمو والنهوض.

وحسب رأي صديقي، يبدو أن الهرم في بلادنا، بما فيها سوريا، مقلوب، فالنخب المتحكمة تسير بالشعوب إلى الوراء، فيما تمتلك الشعوب الكثير من السمات الخلّاقة التي لو توفرت نخب قادرة على استثمارها وتنظيمها، لكانت في مقدمة شعوب الأرض، وليس العكس.

ترك تعليق

التعليق