التكنوقراط السوري و"الطائفة الأسدية"


يستخدم فراس طلاس تعبيراً ملفتاً للدلالة على أنصار الأسد، إذ يسميهم "الطائفة الأسدية"، مصراً على أن الصراع في سوريا ليس صراعاً طائفياً، بقدر ما هو صراع بين "أسديين" يؤيدون الأسد من كل الطوائف والأديان، وبين معارضين لنهج الأسد، من كل الطوائف والأديان.

ويتعرض فراس طلاس في نقاشاته على صفحته في "فيسبوك"، للكثير من اللمز حيال كونه سابقاً، وقبله والده، أحد رموز تلك "الطائفة"، التي يسميها بـ "الأسدية".

لكن بعيداً عن شخص فراس طلاس، يبدو أن التعبير بحد ذاته، ملفت، إذ إنه يُذكّر السوريين في غمرة تأجج المشاعر الطائفية في المشهد السوري، أن مؤيدي الأسد ليسوا فقط علويين، بل بعض جُلّهم من السُنة.

هل يمكن تعريف "الطائفة الأسدية"، من أنصار الأسد، تعريفاً موضوعياً؟

في محاولتنا لوضع هكذا تعريف، دعنا نبدأ بالإشارة إلى أن تأييد الكثير من أنصار الأسد، للأسد ونظامه، ليس نابعاً عن تأييد لشخصه، حقيقةً، بل نتاج مصالح تربطهم بهذا النظام والواقع الذي خلقه في سوريا على مدى عقود.

أبرز الفئات السورية التي يغلب عليها تأييد نظام الأسد، لأسباب مصلحية، هم "التكنوقراط السوري"، من الخبراء والمتخصصين وموظفي الدولة الكِبار.

بمراجعة سريعة لأبرز الشخصيات التي انشقت عن نظام الأسد خلال الثورة، نجد أن معظم التكنوقراط السوري الخبير، خاصة على الصعد الاقتصادية والدبلوماسية، بقي في صف نظام الأسد، باستثناء حالات معدودة، ربما.

هل من تفسير لاصطفاف معظم "التكنوقراط السوري"، رغم خبرتهم، إلى جانب نظام الأسد؟

الجواب يرجع بنا إلى كتاب موسوعي أشار فيه المفكر السوري الشهير، الطيب تيزيني، منذ الثمانينات، إلى مخاطر استراتيجية "الفساد والإفساد"، التي ينتهجها نظام الأسد. إشارات تيزيني تلك كانت غير مباشرة، قدر المستطاع، بحكم الظروف الأمنية التي كانت تحكم تلك الحقبة، لكنها كانت جلية لكل قارئ.

مخاوف تيزيني تحققت، فحافظ الأسد الذي أسس نظامه على جملة ركائز، من أبرزها، قاعدة "الولاء مقابل الفساد"، تمكن من اختراط التكنوقراط السوري، وتوريط معظم كوادره في الفساد، ليصبح طيّعاً في قبضته.

اليوم، مؤسسات الدولة السورية، باستثناء الجيش والأجهزة الأمنية، تفيض بحالات الخبراء من التكنوقراط والموظفين القدامى، الذين تورطوا في ملفات فساد، فأُقعدوا عن الفعل، وتحولوا إلى أدوات يمكن لنظام الأسد توجيهها كما يريد، دون أي قدرة على المقاومة أو الرفض.

مناسبة ذلك الكلام يرتبط تحديداً بإطاحة الأسد لأديب ميالة. ذلك الرجل الذي قاد السياسة النقدية السورية طوال 12 عاماً. البعض يرفض توصيف أديب ميالة بالخبير. لكنه في نهاية المطاف، كان أحد أبرز الممسكين بدفة السياسة النقدية لبلادنا، لأكثر من عقدٍ من الزمان. وأدنى من ميالة، داخل أروقة المصرف المركزي، يوجد عشرات الخبراء القدامى، الذين يساهمون في رسم السياسة النقدية لبلادهم. لكنهم لا يملكون القرار في تحديد شكل هذه السياسة. دورهم ينحصر في رسم سياسة تتناسب مع توجه محدد يأتيهم من أعلى هرم النظام.

لماذا لا يستطيع التكنوقراط السوري أن يلعب دوراً في رفض إملاءات قيادة النظام إن كانت تتعارض مع مصالح
الدولة السورية؟

الجواب لا ينحصر بالخطر الأمني الذي قد يتهددهم، فقط، بل أبعد من ذلك، يتعلق في أنهم، في غالبيتهم العظمى، متورطون في ملفات فساد أتاح لهم النظام التورط فيها، لتكون زلات يُلوح لهم بها، كلما أراد منهم اتخاذ قرارات سلبية بحق مصالح بلادهم، وعليهم هم وحدهم أن يتحمل مسؤوليتها أمام الجمهور، في نهاية المطاف.

ينطبق ذلك على التكنوقراط السوري المخضرم في مجال التعليم والاقتصاد، وفي مجال السياسة الخارجية. إذ يكفي أن نذكر أن وليد المعلم، الذي أشاد الإسرائيليون أنفسهم، في كتب متخصصة لهم، بحنكته في إدارة المفاوضات معهم، في نهاية التسعينات، يقبع في وزارة خارجية النظام، كورقة ممقوتة للجمهور السوري، ينفذ ما يُملى عليه.

وهكذا يمكن أن نفهم لماذا كان عدد المنشقين من كبار رجالات "التكنوقراط السوري" عن النظام، محدوداً. فالفساد أقعدهم عن الفعل. وسواء كان ذلك التكنوقراط، هو أديب ميالة، أو وليد المعلم، أو أي اسمٍ آخر من أسماء النخبة في حكومة النظام. فهم جميعاً أدوات مستلبة الإرادة، بعد أن تمكن النظام من اختراقهم عبر قاعدته المحببة التي حذّر منها، المفكر السوري، الطيب تيزيني، منذ عقود، "الفساد والإفساد".

وبذلك، تحول كل هؤلاء، إلى عناصر في "الطائفة الأسدية". لا يوالون الأسد محبةً فيه، أو رضىً بسياساته. بل نتاج استلاب إراداتهم، بفعل تورطهم في الفساد الذي تحول إلى أداة منهجية لإدارة البلاد، لدى مؤسس ذلك النظام، حافظ الأسد.

ترك تعليق

التعليق