بوظة بكداش.. المقدمة للاستيلاء على دمشق القديمة


عشت أكثر من عشرين عاماً في دمشق، لم أزر خلالها محل بوظة بكداش، ولا أستطيع أن أؤكد أنني أعرف موقع المحل جيداً في سوق الحميدية.. ربما أكون قد مررت من أمامه كثيراً، لكن ولا مرة لفت انتباهي أو استوقفني، والسبب أنني، مذ كنت طفلاً، حرمت من أكل البوظة وكل أنواع المثلجات، لعلة في أسناني وليس لأسباب أخرى..

كنت أسمع الأصدقاء يتحدثون في مواسم الصيف عن زيارتهم لمحل بوظة بكداش أو خططهم من أجل زيارته، وعندما يتناول أحدهم البوظة من بكداش، يظل على مدى يومين يتحدث عنها، وكأن طعمها لازال تحت أسنانه.. وأي زائر لدمشق من المحافظات الأخرى، كان إذا لم يمر على محل بوظة بكداش، تظل زيارته ناقصة، والبعض كان يقول له: كأنك لم تزر المدينة إطلاقاً.. لقد ذهب نصف عمرك..

إلى هذا الحد، كان محل بوظة بكداش أحد معالم دمشق التاريخية البارزة وجزءاً من هويتها الثقافية والمجتمعية، لذلك لم أستغرب هذا الزعل الذي ألم بأجيال كاملة من السوريين، بعد سماعهم لخبر إغلاق سلطات النظام للمحل بشكل نهائي، بدعوى مخالفات صحية.. وهو ما جعلهم يرون بأن الإغلاق، على هذا النحو، مقصوداً بكل معنى الكلمة.. لأنه بإمكان الجهات المعنية، أن تصدر قراراً بإغلاق المحل لفترة محددة إذا كان هناك بالفعل مخالفات صحية، أو أن تخالف صاحبه بمبلغ مالي، ويبقى المحل مفتوحاً، أما أن يكون الإغلاق نهائياً، فهو ما يؤكد، بأن القرار اتخذ ومن أعلى هرم في السلطة.. أما عن الدوافع، فهي كثيرة ويستطيع أي سوري أن يتحدث بها، أقلها تدمير هوية دمشق المجتمعية ومعالمها الثقافية، وبالذات المعالم العثمانية في المدينة.. أما أكثرها، فهو ما يجري تداوله، بأن إيران تسعى للسيطرة على محيط المسجد الأموي، والذي تجلى بافتعال العديد من الحرائق في المنطقة خلال السنتين الماضيتين، لإجبار أهلها على إخلائها، وعندما لم تفلح هذه الطريقة، بدأ النظام بالبحث عن طرق أخرى..

ولعلنا في هذا المجال، بحاجة لأن نذكر بقرار على درجة كبيرة من الخطورة، اتخذه النظام مؤخراً، ولم يدرك أحد مراميه الحقيقية، وهو القرار الذي يقضي باسترجاع أملاك الدولة المؤجرة للقطاع الخاص وإعادة استثمارها من جديد..

فمن المعروف أن المنطقة المحيطة بالمسجد الأموي، بما فيها سوق الحميدية والأسواق الأخرى المتفرعة عنه، هي وقف لوزارة الأوقاف، وهي من تقوم بتأجيرها للقطاع الخاص، لذلك من يتابع وسائل إعلام النظام في الفترة الأخيرة، لا بد أن يلاحظ بأن أجهزة المخابرات بدأت بتوجيه هذا الإعلام، نحو ضرورة المطالبة باسترجاع أملاك وزارة الأوقاف وإعادة استثمارها من جديد، بدعوى أنها سوف تحقق عائدات كبيرة لخزينة الدولة.. وتجلى ذلك من خلال الحالة الاستعراضية التي رافقت إعادة استثمار مول قاسيون، من مبلغ 20 مليون ليرة في السنة، إلى مليار و 20 مليون ليرة في السنة.. لهذا لا نستبعد أن يكون النظام هو وراء هذه الصفقة لتهيئة الرأي العام لما هو أعظم.. لأن وسيم قطان المستثمر الجديد لمول قاسيون، والذي دفع هذا المبلغ الهائل كآجار سنوي، هو شخص مغمور وليس لديه أنشطة اقتصادية سابقة أو معروفة، بالإضافة إلى أن حسابات الجدوى الاقتصادية، تبدو خاسرة منذ الوهلة الأولى حتى لو كان سيتاجر بالحشيش والمخدرات..

أعتقد، أننا يجب أن نأخذ ما يجري على الساحة الدمشقية، من عمليات تغيير ديمغرافي، بجدية مطلقة.. هناك تحركات إيرانية ناعمة تجري للسيطرة على المدينة القديمة، بعد أن فشلت تحركاتها البلطجية.. وهي مهمة أهل دمشق وتجارها ورجال دينها ومثقفيها، أن يقفوا بوجه هذه المخططات، وأن يتمسكوا بهوية مدينتهم وبأرزاقهم، مهما كانت حجم الضغوطات..

ترك تعليق

التعليق