تركة باسل الأسد النمساوية


كانت صادمة، تلك المعطيات التي عرضها برنامج الجزيرة الوثائقية، "نهايات غامضة – محمود الزعبي"، قبل أيام. لم تكن صادمة، لأنها جديدة، بل لأنها أكدت بصورة فجّة، حقائق لطالما عرفها السوريون، لكن غالبيتهم كان عاجزاً عن التدليل عليها.

لا أعتقد أن أحداً من السوريين الذين تابعوا البرنامج المذكور، ركزوا على شخص محمود الزعبي، ونهايته الغامضة، بقدر ما ركزوا على شخصيات العائلة الحاكمة، وسلوكياتها، وطرق تعاملها مع أدواتها، التي كان الزعبي أقلها قيمةً.

فأن يعرف السوريون، بأن باسل الأسد اكتنز، في النصف الأول من التسعينات فقط، أكثر من 13 مليار دولار، في بنوك نمساوية، وبعلم والده، هي ربما ليست صدمة لأنها معلومة غير متوقعة، لكنها صدمة، لأنها معلومة فجّة، ووقحة.. تكشف حجم الانتهاك الذي كان يمارسه آل الأسد، منذ وقت مبكرٍ، لثروات هذا البلد، ومعيشة أهله.

وأن يكلف حافظ الأسد، محمود الزعبي، باسترداد تركة باسل الأسد، بعد وفاته، يؤكد حقيقة أن الأسد الأب، ذاته، كان يعتبر الفساد، واكتناز الثروات بصورة غير شرعية، استراتيجية لتأمين المكاسب من حكمه. وأن تلك الاستراتيجية لم تتبلور بمعزل عنه، أو على مضض منه، حسبما كان يُشاع في أوقات معينة.

والحقيقة الفجّة الأخرى، التي كان الكثير من السوريين يعلمونها، لكنهم عاجزين عن التدليل عليها، هي أن الغرب، بمؤسساته العريقة الناضحة بالديمقراطية، كان يعلم مقدار الفساد الذي يغرق به آل الأسد الحاكمين في سوريا. وكان يتقبل ذلك إلى أبعد الحدود، بل كان شريكاً فيه. فها هي حكومة النمسا، وجدت سبيلاً لتنفيذ صفقة إرجاع وديعة باسل الأسد في بنوكها، بطرق ملتوية.

حقيقة أخرى، أكدتها معطيات ذلك البرنامج، هي أن التكنوقراط الذين يديرون واحدة من أهم مؤسسات الدولة السورية، "مجلس الوزراء"، هم مجرد أدوات، لا قيمة لهم ولا وزن. وأنهم مجبرون في معظم الأحيان، على تنفيذ المطلوب منهم، مقابل السكوت عن هوامش فساد محدودة متاحة لهم.

إذاً، كذبة "مؤسسات الدولة"، التي لطالما تحدث عنها الغرب، الحريص على عدم سقوط "الدولة السورية"، وتوافق معه الروس في ذلك.. كانت كذبة مفضوحة في أوساط تلك الأطراف الدولية، منذ وقت مبكر.. فهي كانت على علم، وتورط مباشر، في كثير من الأحيان، في فساد آل الأسد الحاكمين لتلك المؤسسات الورقية، التي لم تكن أكثر من واجهة لشرعنة حكمهم.

الغرب والروس، لم يكونوا يخشون يوماً انهيار "مؤسسات الدولة السورية"، بقدر ما كانوا يخشون وصول بديلٍ نخبوي إلى الحكم في سوريا، يعجزون عن تطويعه، وضبطه، بصورة تخدم مصالحهم. فهم لهم باع طويل في التعامل مع آل الأسد، ويعلمون أن هذه العائلة، والعائلات المتصاهرة معها، همها الوحيد، اكتناز الثروات، وتهريبها خارج البلاد، لتأمين نفسها من مستقبل مرعب، لطالما توقعته.

النقطة الأخيرة كانت واضحة في تفاصيل ما عرضه البرنامج المذكور. فالأسد الأب كان مصراً على توريث الحكم لأحد أبنائه، حتى لو كان بشار، ذي الهندام الفوضوي، الذي ظهر في جنازة شقيقه الأكبر، بصورة لا تليق بالخليفة المرتقب. ورغم ذلك، قربه الأسد الأب إلى الواجهة.

لماذا كان حافظ الأسد يريد توريث الحكم لأولاده بأي شكل؟.. ببساطة، لأنه أقام تجربة حكم تنضح بالفساد، ويخشى أن تنهار فور وفاته، وأن يكشف خلفاؤه، حتى من المقربين منه، حقائق فساده وفساد عائلته، وأن يدفع أبناؤه ثمن جرائمه. فقرر أن حبل تلك الجرائم يجب ألا ينقطع.

لكن رغم ذلك، لم يكن الأسد الأب مطمئناً لاكتناز المال في بلده. كانت بنوك أوروبا أكثر أمناً بالنسبة له.

دعنا نتصور، إن كان باسل الأسد، الشاب الذي توفي عن 34 عاماً، قد اكتنز 13 مليار دولار، حينها. فكم اكتنز شقيقه بشار، والآخر ماهر، حتى اليوم، على حساب السوريين. وكم اكتنز رموز آل مخلوف وسواهم.

لم تكن المعطيات السابقة صادمة، فهي ليست غريبة أو مفاجئة، لكنها كانت فجّة ووقحة. فهم يسرقون، وبكل فجاجة، ومنذ وقتٍ مبكرٍ. حتى من رأس هرم النظام، والمؤسس له، حافظ الأسد. ذلك الرجل العجوز الذي كان حريصاً، في أشد أوضاعه الصحية حرجاً، على ألا ينقطع حبل الجرائم والفساد، من بعده.

ترك تعليق

التعليق