أسئلة شائكة حول الاستثمار في "حضن الأسد"


منذ أيام، هاتفني صديق سوري، مقيم في دولة خليجية، ولديه ملاءة مالية مناسبة لتنفيذ استثمارات نوعية. أخبرني أنه عاد من زيارة عائلية في دمشق، وسمحت له زيارته تلك، أن يصل إلى قناعة مفادها، أن الوضع في سوريا بات الآن مناسباً للعودة والاستثمار فيها، خاصةً مع زيادة الضغوط التي يواجهها السوريون في الدول الخليجية، التي بدورها، تعاني في معظمها، من ارتفاع معدلات الضريبة، والقيود، على الوافدين.

هذا الصديق، كان في بدايات الحراك الثوري، متعاطفاً بشدة مع الثورة والثوار. لكنه لم يكن من الناشطين. ولاحقاً، انغمس في نشاط استثماري له، في الدولة الخليجية التي يعيش فيها. واليوم، زادت رغبته في العودة إلى دمشق، بعد أن تلمس استقراراً نسبياً في الأوضاع هناك.

لا يخفِ ذلك الصديق، أثناء حديثه، مرارة الحاجة للاستثمار في حضن النظام، الذي يمقته، لكنه يرى ذلك أفضل بكثير من بقاء معظم السوريين تائهين في دول اللجوء والمهجر، ويعانون من القيود، ولا يحظون بأي تقدير، لاستثماراتهم من جانب معظم الدول العربية، في معظم الحالات.

حالة ذلك الصديق، قد تكون نموذجاً للعشرات، أو ربما المئات، من أصحاب الملاءة المالية المتوسطة، القادرين على تحريك النشاط الاستثماري في سوريا. لكن يبقى التحدي الأخلاقي، هاجساً لدى الكثير من أبناء هذه الشريحة. فهم في نهاية المطاف، يعطون نظام الأسد صك براءة وإقرار بانتصاره. هذا التحدي لا يصمد كثيراً أمام المصلحة.

لنقر. نجح النظام في إيصال الإيحاء الذي يريده للكثير من السوريين. تسمع من جُلهم هذه الأيام، ممن يعانون من ظروف غير مريحة في دول الجوار العربي، تحديداً، أنهم راغبين جدياً بالعودة إلى سوريا. وبعضهم يحاول إخراس ضميره، بإلقاء اللوم على قادة الحراك الثوري ورموز المعارضة، الذين يتحملون، حسب هؤلاء، مسؤولية ما وصلنا إليه.

لكن، لو قررنا تنحية الأبعاد الأخلاقية تماماً، وتكلمنا بلغة المستثمر، الذي تشكل المصلحة بوصلته.. يجب أن يكون السؤال حينها، هل الاستثمار في سوريا آمن اليوم؟

المستثمر جبان بطبيعة الحال. لذلك، هناك مئات المستثمرين وأصحاب الملاءة من السوريين، غادروا البلاد في السنة الثانية من الحراك الثوري. مرد مغادرتهم لم يكن ميل بعضهم للحراك الثوري، رغم أن ذلك هو السبب في بعض الحالات بالفعل. لكن بالعموم، كان سبب مغادرة الكثير من السوريين للبلاد، هو تدهور الأوضاع الأمنية، وما لحقها من تدهور في الأوضاع الخدمية والمعيشية.

اليوم، سوريا الخاضعة لنظام الأسد، باتت في وضعٍ أكثر استقراراً. ويظهر للعيان، بالنسبة للكثيرين، أن الأسد ونظامه، لن يكونا في خطرٍ، قريباً. فهل يعني ذلك، حسب بوصلة المصلحة، أن الاستثمار آمن ومثمر في سوريا؟

الجواب على ذلك لا يجب أن نبحث عنه في الداخل السوري. لأنه، للأسف الشديد، لم يعد السوريون هم صناع المشهد الخاص بهم. فسوريا اليوم، ساحة صراع إقليمي ودولي. وبالتالي، فإن الإجابة على سؤال، هل الاستثمار في سوريا آمن؟، نجده في أجندات المتصارعين على ترابها.

فماذا تقول أجندات هؤلاء؟

 لنبدأ بما قاله نخبة خبراء وقادة الأعمال والساسة في العالم، في منتداهم النخبوي الشهير، في دافوس، قبل أيام.

قالوا ببساطة، إن مخاطر جيوسياسية كبرى تعتمل في العالم. ويحتل الشرق الأوسط موقع الصدارة في عدد تلك المخاطر. وفي وسطه سوريا.

ويرى هؤلاء، أن العلاقات الأمريكية مع كل من روسيا، والصين، مرشحة للمزيد من التدهور، والصراع. وبطبيعة الحال، سوريا إحدى ساحات الصراع تلك.

قبيل انعقاد منتدى دافوس السويسري بأيام، صدر تقرير المخاطر العالمية لعام 2018. شارك بإعداده قرابة 1000 خبير، من حكومات وشركات وأكاديميين ومنظمات غير حكومية، أشار 93% منهم إلى أنهم يتوقعون تفاقم المواجهات السياسية أو الاقتصادية بين قوى كبرى في 2018، ومن بين هذه النسبة 40% قالوا إن هذه المخاطر زادت بشدة.

وقال نحو 79% من المشاركين إن هناك مخاطر متزايدة من نشوب صراع عسكري بين دولتين. وإلى جانب خطر الصراع في شبه الجزيرة الكورية حذر التقرير من خطر نشوب مواجهات عسكرية جديدة في منطقة الشرق الأوسط.

وبالعودة إلى الوراء أكثر، وقبيل انعقاد منتدى دافوس. صدرت عن الإدارة الأمريكية، استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، نهاية العام 2017. تلك الاستراتيجية، عبّرت، حسب مراقبين، عن انتصار الدولة العميقة على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بحيث ظهرت أدبيات الحرب الباردة جليّة في مفاصل تلك الاستراتيجية.

وحددت الاستراتيجية المذكورة، ثلاثة تهديدات على الأمن القومي الأمريكي: "طموحات روسيا والصين. الدولتان المارقتان إيران وكوريا الشمالية. الجماعات الإرهابية الدولية الهادفة إلى العمل النشط ضد الولايات المتحدة الأمريكية".

وركز مراقبون على عبارة "سنعيد تنشيط اقتصادنا. سنعيد تنشيط جيشنا". التي وردت في الاستراتيجية، بما توحي بتفاقم نزعة العداء للروس والصينيين، وللقوى الأخرى التي تتحدى النفوذ الأمريكي.

كانت أولى انعكاسات استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، الجديدة، في سوريا، حينما قرر الأمريكيون، بالتعاون مع حلفاء أوروبيين وإقليميين، إفشال مؤتمر سوتشي، الذي راهن عليه الروس كثيراً.

ذلك يعني بإيجاز، أن الأمريكيين سيخوضون صراعات منافسة مع الروس في أكثر من ساحة دولية، إحداها سوريا.

إذاً، سوريا ليست باتجاه الاستقرار في المدى المنظور، بخلاف ما يروّج له النظام وحلفاؤه. بل على العكس. فانحسار تنظيم "الدولة الإسلامية"، أعاد بوصلة الصراع الإقليمي والدولي إلى وجهته الأولى.

لكن قد يعلّق أحدهم على ما سبق.. إن كانت المخاطر الجيوسياسية تعم الشرق الأوسط، فالأَولى بالسوريين أن يرجعوا إلى بلدهم، لأن المنطقة برمتها، معرضة للخطر.. والجواب هنا يحدده كل شخص بمفرده، حسب مصالحه، وحسب تقديره لها. لكن، كإجابة على تساؤل: هل الاستثمار في سوريا آمن اليوم؟.. تبدو كلمة "لا" هي الأرجح.

لكن، من جانب آخر، قد يتساءل البعض. اليوم، يسعى النظام لفتح الباب للراغبين بالعودة إلى سوريا والاستثمار فيها، لأنه بحاجة إلى ضخ الأموال في شرايين اقتصاده.. أليس الأفضل استغلال تلك الفرصة كي يقتنصها سوريون لا اصطفافات وولاءات خاصة تحكمهم، في أدنى الحدود، بدلاً من أن ينال تلك الفرص، شخصيات محسوبة على النظام وإيران وروسيا، فيتم خسارة سوريا واقتصادها لصالح الغرباء؟

أيضاً، الإجابة على ذلك، يحددها كل شخص بمفرده، وحسب قراءته الخاصة لموقفه. ولا يحق لأحد، في رأينا، أن يقيّم الآخرين، وأن يحدد ما يجوز وما لا يجوز للسوريين فعله، حتى لو كان ذلك، يعني العودة إلى سوريا للاستثمار فيها، في ظل نظام الأسد. فوجود شريحة كبيرة من المستثمرين السوريين المؤثرين في الاقتصاد، لا تعتمد على دعم جهة خارجية، بل تعتمد على ملاءتها المالية فقط، هو أمر مفيد في مواجهة حالة اكتساح رجال أعمال يشكلون واجهة لقوى خارجية تريد الاستئثار بالاقتصاد السوري، كإيران وروسيا.

 لكن يبقى أنه، وفق المعايير الاستثمارية، فإن الاستثمار في سوريا غير آمن. وفي حسابات المصلحة الصرفة، من يشعر بدرجة مقبولة من الاستقرار الاستثماري، في مُغتربه، عليه أن يتريث أكثر، قبل أن يعود إلى دمشق.


ترك تعليق

التعليق