خالد العظم.. أول رجل اقتصاد في سوريا


القارئ لسيرة خالد العظم، كرجل اقتصاد أولاً، ورجل دولة ثانياً، سوف يلحظ كماً هائلاً من البراغماتية التي ميزت سلوكه وقراراته وعلى مختلف الأصعدة، والتي كانت تهدف بالدرجة الأولى والأخيرة، إلى خدمة الوطن السوري بعيداً عن المواقف الاستعراضية والخطابية والشعاراتية وقضايا الكاريزما التي كان تشغل بال الكثير من القادة والسياسيين لحصد التأييد الشعبي.. بل على العكس، فهو شخصية لم تكن شعبية على الإطلاق، وفي هذا الجانب تحديداً، لم يكن محبوباً أو جماهيرياً، لكنه من جهة ثانية، كان يسعى لصناعة شخصية للدولة السورية، قوية اقتصادياً أولاً وثانياً وثالثاً، ومن ثم كان يرى أن سوريا كدولة ناشئة يجب أن تكون بعيدة عن اللعب في السياسة، أو البحث عن دور بارز، وإنما تستطيع أن تعوض ذلك من خلال مراقبة التوازنات الدولية والانتماء إلى ما يحقق مصلحة الوطن ومنفعته الاقتصادية.. لذلك كان أسرع رجل دولة يتنقل بين المواقف السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار إلى الوسط، تارة تجده يتحالف مع أمريكا وتارة أخرى مع الاتحاد السوفييتي، ثم يعود للتفاهم مع فرنسا.. وهكذا..

 على أن اللافت في أغلب تحالفاته، أنها كانت عبر الاقتصاد وليس السياسة، كونه كان يؤمن بأن المصلحة الاقتصادية هي التي تقود إلى المصلحة السياسية..

محطات

ولد خالد العظم في دمشق في عام 1903، من أسرة اقطاعية، كانت تمارس السياسة في الدولة العثمانية. وتولى والده العديد من المناصب، كان أبرزها وزير الشؤون الدينية..

وتلقى العظم تعليمه بين إسطنبول ودمشق، التي تخرج من جامعتها في عام 1923، حاملاً إجازة في القانون. لكنه سرعان ما انخرط في العمل السياسي من بوابة الاقتصاد.

أسس في العام 1930 مع عدد من رجال الأعمال، "الشركة الوطنية للشمينتو" ومواد البناء، وكانت أول شركة مساهمة سورية، وفتحت الأنظار إلى أهمية الصناعة وقدرتها الهائلة على التنمية الاقتصادية، إذ حققت الشركة أرباحاً طائلة لمساهميها، ما دفع العظم، لتأسيس الغرفة الصناعية في العام 1935، وكان قد انخرط في العمل السياسي من خلال دخوله للبرلمان في العام 1932، ومن ثم العمل الحكومي، بصفته وزيراً.

ويقول العظم في المجلد الثاني من مذكراته، إن الشركة الوطنية للشمينتو، كانت المحطة الأولى التي استطاع من خلالها بلورة قانون العمل في سوريا، إذ أنه، وباعتباره مديراً عاماً لها، أقر قوانين داخلية للتأمين الصحي والتأمين على العمال اجتماعياً، ومن ثم كانت أول شركة يتم فيها تحديد ساعات العمل بثماني ساعات يومياً.

قادت البراغماتية، خالد العظم، فيما بعد، إلى تأسيس شركة الغزل والمناسج المساهمة في العام 1939، وكان يخطط لأن تكون عنصراً فاعلاً في تسويق منتجاتها، مع انطلاق أحداث الحرب العالمية الثانية، إلا أنه بحسب ما كتب في مذكراته، فإن الشركة لم تحقق المرجو منها، ويقصد الربح، إلا بعد مرور 15 عاماً على تأسيسها، حيث انعكست الحرب سلباً على تصريف منتجات الشركة، بعكس ما كان يخطط.

في العام 1941، تولى العظم أول رئاسة حكومة في حياته، وكان يبلغ من العمر 38 عاماً، لكنه لم يبق في هذا المنصب سوى خمسة أشهر، وتم استبداله بتاج الدين الحسيني، فيما تولى هو منصب وزير العدل حتى العام 1946، ويحسب له خلال هذه الفترة أنه ألغى الامتيازات الأجنبية.

التحول الأهم والإنجاز الأكبر الذي حققه، كان في رئاسته للحكومة للمرة الثانية في العام 1946، إذ أنه أصدر مجموعة قوانين لإصلاح النقد، من خلال فك ارتباط الليرة السورية بالفرنك الفرنسي، وهو ما أدى على الفور إلى ارتفاع قيمتها إلى ما يعادل 405 ميليغراماً من الذهب. وهي حكومة لم تدم طويلاً، حيث جرى استبدالها بأخرى برئاسة جميل مردم بك.

بعد نكبة فلسطين في العام 1948، تعرضت الحكومة للكثير من الانتقادات، ما دفعها للاستقالة، وإعادة تكليف العظم بتشكيل الحكومة، وكان ذلك في 17 كانون الأول عام 1948، وسارع على الفور إلى إجراء إصلاحات اقتصادية لوقف تدهور الليرة السورية، بسبب أعمال الشغب التي تلت النكبة.

خلال تلك الفترة، حاول العظم التقرب من فرنسا اقتصادياً، حيث عقد معها اتفاقاً مالياً وصفقة أسلحة، لم يتم إكمالها، بسبب ثوران الجيش عليه، بعد اعتراضه على تدخل الأخير في الحياة السياسية، وهو ما انتهى إلى حدوث انقلاب حسني الزعيم عليه في العام 1949، ومن ثم اعتقاله هو ورئيس الجمهورية، وتوجيه تهمة العمالة له لصالح أمريكا، بسبب أنه بدأ باستيراد آلات للمعامل التي أخذ ينشئها من الولايات المتحدة الأمريكية، التي حاولت في تلك الفترة الانفتاح على سوريا لقطع الطريق على التمدد السوفييتي..

بعد الإطاحة بحسني الزعيم، أعاده أديب الشيشكلي لرئاسة الحكومة، التي استمرت حتى العام 1954، وخلال هذه الفترة، حاول العظم التقرب من الاتحاد السوفييتي وعقد معه العديد من الاتفاقيات الاقتصادية وصفقات الأسلحة، وهو ما أثار غضب الولايات المتحدة الأمريكية عليه.

كان العظم من أشد الرافضين للوحدة مع مصر في العام 1958، حيث صرح بأن عبد الناصر سيدمر النظام الديمقراطي واقتصاد السوق الحرة في سوريا، وقرر اعتزال العمل السياسي والمغادرة إلى بيروت.

بعد الانفصال في العام 1961، عاد العظم إلى سوريا وتولى رئاسة الحكومة، وحاول جاهداً إصلاح ما خربته الوحدة مع مصر على المستوى الاقتصادي، وبدأ بإعادة ما تم تأميمه إلى أصحابه، بالإضافة إلى أنه قام بعدة إجراءات لحماية الليرة السورية، والمنتج السوري، خوفاً من انهيارها نتيجة الاضطرابات السياسية التي أعقبت الانفصال.

عندما انقلب البعث على السلطة في 8 آذار من عام 1963، أصدروا قراراً في اليوم التالي، بحل حكومة خالد العظم، ومصادرة جميع ممتلكاته باعتباره من أدوات الاستعمار والرأسمالية في سوريا، وتم طي جميع القرارات التي اتخذها لإصلاح الاقتصاد السوري بعد الوحدة مع مصر، وهو ما دفعه للهرب إلى بيروت، التي بقي فيها حتى وفاته في العام 1965..

ويقال أنه عاش السنوات الأخيرة في بيروت فقيراً، والتي أوصى كذلك أن يدفن فيها بعيداً عن دمشق.

الوطن السوري أولاً

لم يكن خالد العظم عروبياً بالمعنى الشعبي للكلمة، فهو كان رافضاً لكل المشاريع الوحدوية مع أي من الدول العربية، وكان لا يقيم وزناً لما يسمى علاقات الأشقاء العرب والتنازلات فيما بينها، إذا كانت هذه العلاقة ستضر بمصلحة الوطن السوري اقتصادياً وسياسياً.

وفي عهده تم فصل جميع العلاقات الاقتصادية عن لبنان وبالذات النقد والعلاقات التجارية، كونه كان يرى بأن هذه العلاقات تحقق مصلحة لبنان أكثر من سوريا.

وقام بتأسيس مرفأ اللاذقية في العام 1950، رداً على سيطرة مرفأ بيروت، وتحكمه بالتجار السوريين، وكان أول من وضع اتفاقاً جمركياً مع لبنان، وبذلك انفصلت علاقات البلدين بشكل رسمي وفي كل شيء تقريباً.

ومن يقرأ مذكرات خالد العظم، يجده يوجه انتقادات كبيرة لرئيس الحكومة اللبناني آنذاك رياض الصلح، ويتهمه بأنه كان يسعى لمصلحة لبنان أولاً وعلى حساب كل شيء، متسائلاً: لماذا لا نبحث نحن عن مصلحة وطننا السوري إذاً..؟

وعمل خالد العظم ما بوسعه، لبلورة هوية ليبرالية للاقتصاد السوري، من خلال تحريره بالكامل من كل القيود، كما وضع كل الإمكانيات التنافسية أمامه، من أجل أن يكون قادراً على الصمود والتطور.. لهذا شهدت الفترات التي تولى فيها المناصب الحكومية، تأسيس عدد كبير من المصانع لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الصناعات ومن ثم التصدير إلى باقي دول العالم.. ولعله في هذا المجال صاحب نظرية، أن الصناعة هي قاطرة النمو، وهو أمر توصلت إليه حكومة بشار الأسد بعد العام 2005.

وكان العظم كذلك يؤمن بأن قوة الليرة السورية، هو أساس قوة الاقتصاد السوري، لهذا في أعقاب كل عملية اضطراب سياسي في البلاد، كان يتم الاستعانة به، وأول ما يقوم به، هو عمل الإجراءات اللازمة للمحافظة على مكانة الليرة السورية ومنعها من الهبوط.

كان العظم يكره العسكر كثيراً، ويحذر من وصولهم إلى مواقع السلطة والقرار الحكومي، وكان يرى أن الجيش يجب أن يكون بعيداً عن السياسة، وأن يتولى الاقتصاد مهمة قيادة البلاد أولاً، ومن ثم يأتي في الدرجة الثانية، السياسيون.. حتى أنه في إحدى الحكومات، تولى منصب وزير الدفاع بنفسه لمنع تمدد العسكر..

انتقادات

أغلب الانتقادات التي يتم توجيهها لخالد العظم، هي البراغماتية، وعدم اهتمامه بصنع شخصية للدولة السورية، كجزء من الأمة العربية، فهو كان يرى أن العالم تحكمه قوتان فقط، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، والكثير من الدول تتحالف مع أحد هاتين القوتين وبما يحقق مصالحها، أما هو فكان يرى أنه يجب أن لا يكون هناك تحالف نهائي مع أي دولة، بما يشبه الزواج المسيحي، بل يجب أن تتحرر سوريا كدولة ناشئة من التبعية لأحد، وتبحث عن مصلحتها الاقتصادية بالدرجة الأولى.. لذلك لم يلتزم العظم بأي علاقات صلبة مع أي من القوتين، وكان يتنقل بينهما وحسب مقتضى الحاجة..

كما اتهم العظم كثيراً، بأنه كان يسعى لتحقيق مصالح الطبقة التي ينتمي إليها، وأن قراراته بالانفتاح الاقتصادي الشامل، كان يجني منها أرباحاً طائلة هو وطبقة كبيرة من التجار، باعتبارهم مساهمين في الكثير من المشاريع الاقتصادية والمصانع والبنوك.

أخيراً
 
حاول نظام البعث أن ينزع صفة الوطنية عن خالد العظم، بعد تسلمه السلطة في العام 1963، وقام بتجريده من جميع ممتلكاته وحقوقه المدنية، واتهامه بالعمالة للاستعمار وبأنه ينتمي إلى طبقة المستغلين الذين يسعون إلى إفقار الشعب على حساب تنمية ثرواتهم الشخصية.

إلا أنه بعد الأزمات الاقتصادية التي بدأت تتعرض لها سوريا، منذ العام 1985، بدأ نظام الأسد يدرك مدى فداحة الإجراءات التي اتخذها بحق الاقتصاد السوري، ملغياً من خلالها، كل ما أسسه الآباء الأوائل للاستقلال.. لهذا بدأنا نشهد بعد العام 1991، عودة خجولة نحو ذات الإجراءات الاقتصادية التي أسسها رجالات الاقتصاد الأوائل، إلى أن وصلنا إلى ما بعد العام 2005، عندما اتخذ بشار الأسد قرارات تشبه كثيراً ما كانت عليه الأوضاع في سوريا أيام خالد العظم.. لكن مع فارق كبير، أن الأخير لم يكن لصاً وسارقاً لخيرات البلد كما اتهمه معارضوه، والدليل أن مصادرة ممتلكاته جميعها لم تؤثر في تطور الاقتصاد السوري، ولم تضف إليه أي شيء.. بينما لو جرى مصادرة أموال وممتلكات بشار الأسد والعصبة التي حوله، فإننا سنكون أمام أرقام مهولة، وربما تفوق الناتج المحلي الإجمالي لسوريا..

ترك تعليق

التعليق