عزت طرابلسي.. الاقتصادي النبيل وأول حاكم لمصرف سورية المركزي


وصفه خالد العظم في مذكراته، لدى تسميته كأول رئيس لمجلس إدارة مرفأ اللاذقية في العام 1950، بأنه "من خيرة الشبان الذين درسوا في فرنسا وحازوا الدكتوراه في العلوم المالية". وكان عزت طرابلسي يعمل قبلها أميناً عاماً لوزارة المالية، فأضاف العظم: "وقد أظهر في وزارة المالية مقدرةً فائقة ونشاطاً وفيراً ونزاهة مشكورة، فقد رغبنا في أن يكون أعضاء المجلس /يقصد مجلس إدارة مرفأ اللاذقية/ من البارزين في حقلي التجارة والصناعة في سوريا".

أما الاقتصادي الأعرق في سوريا، الدكتور محمد العمادي، فقد وصف طرابلسي، بأنه أستاذه الذي تعلم على يديه الاقتصاد كعلم وأخلاق بنفس الوقت.. فما هي قصة هذا الاقتصادي، الذي يجمع كل من عاصروه على أنه كان نبيلاً ومخلصاً لبلده وحريصاً على تقدمه ونهضته، ثم كيف تعامل معه نظام الأسد، كونه توفي في العام 2000؟

(صورة من موقع التاريخ السوري)

حياته ومناصبه
 
ولد عزت طرابلسي في دمشق عام 1913، ودرس الثانوية في مكتب عنبر في دمشق، وفي العام 1930 دخل كلية الحقوق في دمشق، وتخرج منها ثم انتقل إلى باريس للحصول على دكتوراه في القانون والعلوم السياسية.

بعد تخرجه عاد إلى دمشق ومارس المحاماة من عام 1934 وحتى عام 1938 وبدأ بعد ذلك بالتدريس في جامعة دمشق، ثم في عام 1939 أصبح عزت الطرابلسي قاضياً في محكمة الأملاك العقارية، وفي عام 1947 ترك الطرابلسي التدريس الجامعي وعمل في وزارة المالية مديراً لدائرة الدخل قبل أن يصبح مديراً لمرفأ اللاذقية عام 1950.

بعد ذلك بعام، عُين طرابلسي مديراً للجمارك وأصبح بعدها معاوناً لوزير المالية. وفي عام 1955، أصبح عزت طرابلسي أول حاكم لمصرف سورية المركزي. وعندما قامت الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، عزل من منصبه في العام 1960 بسبب معارضته سياسة حكومة عبد الناصر المالية التي أرهقت البلاد، وأيد حركة الانفصال التي أطاحت بحكومة الوحدة عام 1961.

وفي عام 1962 عهد الرئيس ناظم القدسي إلى عزت طرابلسي مهمة إعادة تهيئة الاقتصاد في البلاد وعينه وزيراً للاقتصاد الوطني في حكومة خالد العظم. وفي شباط من عام 1963 أصبح طرابلسي وزيراً للمالية، وقد عزم على إعادة تهيئة قطاع سوريا الصناعي المضطرب الذي أممه الرئيس جمال عبد الناصر، لكنه مع انقلاب البعث على السلطة في عام 1963، جرى استبعاده ونفيه إلى لبنان حيث أصبح هناك مديراً عاماً لمصرف "بلوم" في بيروت التي بقي فيها حتى وفاته في العام 2000، حيث تجاهله نظام حافظ الأسد تماماً، ومنع تداول اسمه وانجازاته في الكتب الاقتصادية الجامعية، إلا بوصفه عميلاً للاستعمار والامبريالية.

رؤيته للاقتصاد السوري

كان عزت طرابلسي من أشد المعارضين للنظام الاشتراكي وسياساته الاقتصادية الرامية إلى سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، وعلى ممتلكات القطاع الخاص الصناعية والإنتاجية، وكان يؤمن بالاقتصاد الحر، وبانتهاج سياسة اقتصادية هي أقرب للنظام الرأسمالي، وحتى عندما تم عزله ونفيه بعد انقلاب البعث على السلطة في عام 1963، كان عائداً للتو من ألمانيا الغربية، وقد عقد معها عدداً من الاتفاقيات الاقتصادية، كان أبرزها اتفاقية لتنفيذ سد الفرات.
 
ويُنقل عنه خلال فترة الوحدة مع مصر، وعندما كان حاكماً لمصرف سوريا المركزي، بأنه كان على خلاف دائم مع المسؤولين المصريين بشأن عمليات التأميم، ووقف أكثر من مرة في وجه حكومة "عبد المنعم القيسوني" المصري وعارضه في سياساته، وهو ما دفعه أخيراً لتقديم استقالته في العام 1960، بحسب ما يذكر الدكتور محمد العمادي عنه.

وعندما عاد بعد الانفصال إلى العمل الحكومي سعى عزت طرابلسي جاهداً لمحو الطابع الاشتراكي الذي صبغت به سوريا خلال سنوات الوحدة. وقد اقترح إعادة ملكية المصانع والأملاك المؤممة إلى مالكيها الأصليين وتعويض أصحاب الأراضي والمصانع عن خسارتهم المادية أثناء الوحدة، لأنه كان يؤمن بأن الدولة لوحدها غير قادرة على قيادة العمل الإنتاجي، ولا بد أن يكون ذلك بالتعاون مع القطاع الخاص.
 
كما كان طرابلسي أول من تقدم بمشروع بورصة الأوراق المالية والسندات ومشروع مصرف التسليف الشعبي، الذي نفذه نظام البعث فيما بعد ونسبه إليه.

كما عمل طرابلسي جاهداً على الحفاظ على مستوى ثابت للنقد السوري، وكان يرى أن قوة الليرة السورية هي المؤشر الاقتصادي الأبرز الذي يجب أن تحافظ عليه الدولة السورية، ولا تفرط به، تحت أي ظرف سياسي أو اقتصادي. وكان يرى أن السبيل الأبرز لذلك، هو من خلال ممارسة الحكومة لدور القائد والموجه للسياسة الاقتصادية وليس من خلال السيطرة على كل شيء، لذلك كان من أبرز المؤيدين لسياسة تمويل مصرف سورية المركزي لكافة المشاريع الإنتاجية، وهي سياسة اتبعها نظام البعث في عهد بشار الأسد، عندما طلب من المصرف المركزي تمويل عمليات الاستيراد والمشاريع الإنتاجية عبر المصرف التجاري والصناعي.

مؤلفاته

ألّف عزت طرابلسي عدّة كتب منها "الزراعة في سورية" بالفرنسية، و"الخطوط الكبرى للسياسة الاقتصادية والاجتماعية في سورية العربية"، ودراسات في "المالية العامة، الموارد العامة، الضرائب، القروض" بالاشتراك مع الوزير السوري السابق عوّاد بركات، شمل فيه نظرته السياسية والاقتصادية في سوريا.

أخيراً

لم يعرف عن عزت طرابلسي ملكيته لمعامل ومنشآت كبيرة عندما جرى نفيه إلى لبنان بعد انقلاب البعث في العام 1963، ومع ذلك تمت مصادرة جميع ممتلكاته وأمواله. وهو من جهة ثانية لم يحاول التهجم على الانقلاب الجديد أو يؤسس تياراً معارضاً، بسبب ما عرف عنه من نبل وبأنه لم يكن يسعى أبداً للمناصب الحكومية السياسية، وقد ظل صامتاً طوال أكثر من ثلاثين عاماً من حياته، لكنه لم يكن يخفي خشيته، لكل من كانوا يلتقونه قبل وفاته في العام 2000، بأن نظام البعث لم يكتف بتدمير الاقتصاد السوري فحسب، وإنما دمر سوريا كاملة.

ترك تعليق

التعليق