سبيل مقترح للخروج من النفق السوري المظلم


في سوريا اليوم، لم يعد من المفيد كثيراً، ربما، البحث في أسباب اندلاع الثورة السورية، أو أسباب ما وصلت إليه بعد سبع سنوات من اندلاعها. فقد أُشبع هذان الجانبان، بحثاً ودراسة. قد يكون السؤال الأبرز، اليوم: ما هي سبل الخروج من هذا النفق المظلم الذي دخلنا فيه؟

فرغم أن النظام يدعي الانتصار، يقرّ جميع السوريين، بنسب متفاوتة، أن سوريا باتت تفتقد استقلالها، وأن ثرواتها أصبحت اليوم نهباً لحلفاء النظام، الذين باتوا فعلياً، أقرب إلى قوة احتلال مباشر. فيما يُحكم الأمريكيون قبضتهم على بيضة القبّان من الثروات الباطنية السورية، في الجزيرة.

ولا يبدو أن للسوريين، معارضين أو موالين، أو صامتين، أي دور في المسارات التي يسلكها مستقبل بلادهم. فتلك المسارات باتت في قبضة اللاعبين الخارجيين، الإقليميين والدوليين. لذا يبدو أن السوريين عموماً، دخلوا في نفق مظلم من الارتهان للخارج، ولأجندات ومصالح قواه. هذه هي الصورة الحقيقية للمشهد السوري، التي ينكرها فريق من السوريين الموالين للنظام، رغم جلائها ووضوحها لأي عين مراقبة. لذا يبدو أن السؤال الجوهري للمرحلة القادمة: كيف يمكن للسوريين استعادة زمام أمورهم، من أيدي الخارج؟

في تطور غير متوقع لأحداث الثورة السورية، بتنا اليوم في حالة احتلال وهيمنة خارجية مباشرة، تتطلب نهجاً جديداً من المقاومة. وفي مواجهة القوى الخارجية المُحتلة، عادةً، هناك سبل متعددة، من بينها، المقاومة المسلحة. ولا يبدو أن هذا السبيل، تحديداً، قابل للتدوير في الحالة السورية الراهنة، بحيث يصبح مفيداً لهدف استعادة السوريين لزمام أمورهم. إذ أن سبيل المقاومة المسلحة، بات مستهلكاً، بعد أن ارتهن جزء كبير من فصائل المعارضة للداعم الخارجي، ودفعوا أثماناً باهظة لذلك الارتهان، تمثلت في اجتثاث تلك الفصائل، الواحدة تلو الأخرى، تحت ضربات الطيران الروسي، والميليشيات المجلوبة إيرانياً.. وتحت ضربات صراعاتها فيما بينها أيضاً.

هناك سبل أخرى لمقاومة المحتل الخارجي، غير سبيل المقاومة المسلحة، وقد تكون أقل كلفة منها، وهي المقاومة المدنية، المُطعمة بنشاط سياسي واقتصادي محموم، باتجاه الاستقلال. وهو أمر شهدته سوريا في عهد الانتداب الفرنسي. فالثورة السورية الكبرى، التي ختمت أبرز تجلياتها المسلحة، عام 1927، لم تكن الأداة الحاسمة في تحقيق الاستقلال. وبقي الاحتلال الفرنسي رابضاً على قلوب السوريين. وبعد أن اختبر السوريون الكلفة الباهظة للمقاومة المسلحة ضد المحتل الفرنسي، منذ مطلع عشرينات القرن العشرين، ركن معظمهم لحراك البورجوازية السورية، متجليةً بشقيها الدمشقي والحلبي. حراك سياسي، مدني، على ركائز اقتصادية – اجتماعية، استعان بالمقاومة المسلحة، من حين لآخر، بحيث كمّل كل طرف الآخر.

وقد نجحت تلك البورجوازية، على علاتها، ورغم صراعات أجنحتها وشخصياتها، في تعلّم فنون الممارسة السياسية، وتوحيد صفوف نخبها، بصورة سمحت لها بأن تلعب دوراً بارزاً في توحيد البلاد التي قسّمها الفرنسيون، وفي نيل استقلالها الناجز، بعيد الحرب العالمية الثانية، مستغلين التطورات النوعية، إقليمياً ودولياً، بعيد الحرب.

دون شك، مرت تلك البورجوازية في سقطات عديدة، خلال مساعيها لبلورة قدراتها، خلال عقدين تقريباً، بعد العام 1927. لكنها توجت تلك المساعي باستقلال ناجز للسوريين، عام 1946.

قد لا تكون هذه البورجوازية، حصاناً يمكن الرهان عليه، اليوم، في رأي الكثير من المراقبين. فهي مشتتة، ويشكك مختصون بأن تكون طبقة تعي نفسها بالفعل، رغم تاريخها العريق في العمل السياسي. كما أنها مخترقة بكثافة من جانب النظام. وفي رأي الكثيرين، هي بالأصل، موالية للنظام، وميالة له.

لكن، بشيء من التريث، ومراجعة أسماء وأوزان شخصيات رفيعة من تلك البورجوازية، التي غادرت البلاد، ونقلت معها معظم ثرواتها خارجها، مع تطورات أحداث الثورة السورية، في السنوات السبع الماضية، يمكن الرهان على ذلك الجانب المُهجّر من تلك البورجوازية، الذي يضم نخبة من الأسماء اللامعة في عالم الصناعة والتجارة والخدمات، ممن انتقل إلى دول الجوار السوري والمُغترب.

وإن جمعنا مع هؤلاء، نخبة من الأثرياء السوريين الذين شكلوا ثرواتهم خلال العقود الثلاثة الماضية، خارج البلاد، والذين لعب الكثير منهم، أدواراً بارزة في دعم الحراك الثوري السوري، في جوانب عدة، نجد حصيلة مُعتبرة من البورجوازية السورية، التي يمكن الرهان عليه، لو توافرت لديها الوعي الكافي بقدراتها، والاستعداد للانخراط في دور فاعل، بالتأسيس لحامل اجتماعي، يمكن له أن يساهم في دعم حراك مدني هادئ، داخل البلاد، يقاوم الاحتلال الخارجي، وينسج علاقات عامة راسخة مع مختلف اللاعبين الخارجيين الذين من الممكن أن يدعموا تلك الطبقة، في مواجهة الانفراد الروسي – الإيراني، بمعظم الجغرافيا والديمغرافيا السورية.

وإن كان يمكن الاستعانة من جديد بخيار المقاومة المسلحة، فإن ذلك يجب أن يكون بقيادة وتوجيه من نخبة سياسية تمثل بورجوازية سورية ساعية لتحرير البلاد، وإعادة توحيدها، بدلاً من أن تكون قوى المقاومة المسلحة تعبيراً عن مشاريع وأجندات لا تتوافق مع خيارات الشعب السوري، التي رفعها إبان ثورته، عام 2011.

لكن تبقى عقبة رئيسية تعيق تحقق ذلك المسار، وانطلاقه في الاتجاه المناسب. وهي القدرة على تفعيل عقلية العمل المشترك، والقيادة المشتركة. فتلك السمات التي يتطلبها أي عمل نوعي لتغيير المشهد في سوريا، يفتقدها معظم السوريين، الذين يميلون إلى حالة عالية من الفردية، والتنافس فيما بينهم.

قد يكون هذا السبيل، سبيل التأسيس لحراك بورجوازي سوري في الخارج، سبيلاً صعباً، وشاقاً، وقد يكون طويل الأمد. لكنه في المقابل، أبرز السبل المتاحة، لو تم العمل عليه بإرادة عالية، للخروج من النفق المظلم الذي دخله السوريون جميعاً، بصورة جعلت بلادهم ساحة للصراع الخارجي، ومرتهنة لأجندات هذا الصراع، ومساراته.

ترك تعليق

التعليق