الأسد والروس والأمريكيون.. وخدمة ما بعد البيع


ربما يعلم بشار الأسد الدوافع الحقيقية التي تقف وراء سياسات الدول الكبرى الفاعلة في المنطقة، أكثر من معظم المحللين والمراقبين عن بعد. فالأمر ببساطة، أنه يعلم كثيراً مما يدور خلف الكواليس. لذا، حينما يدافع عن السلاح السوفيتي، العتيق، الذي استخدمته قواته لصد الهجمات الصاروخية الأمريكية والبريطانية والفرنسية، منذ أيام، نافياً عنه صفة "المتخلف"، وبعد ذلك بيومين فقط، تنشر "رويترز" خبراً مفاده أن دونالد ترامب سيطرح مبادرة لتعزيز صادرات السلاح الأمريكية، يمكن لنا أن نتأكد أن ما حدث في سوريا يوم 14 نيسان، كان مجرد استعراض عسكري، يستهدف مشتري الأسلحة حول العالم تحديداً. هو استعراض أراد منه الأمريكيون تهشيم صورة السلاح الروسي، المنافس الرئيسي للسلاح الأمريكي.

 وقد حاولت روسيا جاهدة تجنب ذلك، لكن لم يكن لديها خيارات أخرى. فالبدائل كانت مواجهة مباشرة مع الأمريكيين على التراب السوري، وهذا آخر شيء قد ترغب به موسكو.

عقلية رجل الأعمال، هي التي دفعت ترامب لتنفيذ هذا الاستعراض العسكري، بذريعة استخدام الكيماوي في دوما، في الوقت الذي كان فيه الضحايا والمستهدفون يُهجّرون إلى الشمال، أو يخضعون بمرارة لسيطرة الروس، ولاحقاً، النظام.

سوريا هامشية بالنسبة للأمن القومي الأمريكي، ولا تثير لدى صانع القرار بواشنطن، أية دوافع لتحرك نوعي. لكنها في الوقت نفسه، ساحة مناسبة للاستثمار. إذ يمكن من خلالها استعراض أحدث الأسلحة، وإهانة المنافس الروسي وتهشيم صورة سلاحه. والأهم، يمكن من خلال سوريا، إقناع الحلفاء الخليجيين الأثرياء، بشراء المزيد من الأسلحة، بذريعة تحويل شرق البلاد إلى منصة صدّ للنفوذ الإيراني. ولا يوجد ما يمنع من تحويل المنطقة ذاتها إلى منصة لتعكير صفو الأمن التركي ذاته، ربما. وأيضاً، في الوقت نفسه، تنفيذ عقود مغرية من إعادة الإعمار والاستثمار، بأموال سعودية وإماراتية تحديداً، وربما، باستخدام شركات أمريكية وأوروبية.

شرق سوريا، الغني بالنفط والغاز والثروات الزراعية، تحول إلى غنيمة، تُسيل اللعاب، فتدفع حتى الفرنسيين للمغامرة بالانخراط العسكري المباشر، قدر ما يمكن.

هكذا كشف وزير الخارجية السعودي، عن استعداد السعودية لتنفيذ الرغبة الأمريكية، في لعب دور عسكري مباشر في سوريا. لكنه لم يتحدث أيضاً عن الدور الاستثماري والمالي المطلوب من السعوديين هناك.

في هذه الأثناء، يلح ترامب على إزالة كل العوائق التي تقف في وجه تصدير السلاح. لتصدق رهانات المستثمرين الأمريكيين في هذا السوق، ممن تفاؤلوا في وصول ترامب إلى سدة الرئاسة، منذ عام، مراهنين على استمرار معدلات النمو في صادرات السلاح الأمريكية، على حالها، أو ربما، زيادتها، في عهد الرئيس الجديد.

 ولكي نفهم أكثر، بأن الأمر لا يتعلق تحديداً بشخصية ترامب، كرئيس، بخلاف ما يتم الترويج له، نخبر قارئنا العزيز، بأن صادرات السلاح الأمريكية نمت في عهد باراك أوباما، بنسبة 54%، مقارنة بما كانت عليه، في نهاية عهد سلفه، جورج بوش الابن. وهذا المعدل هو الأعلى منذ خمسينات القرن الماضي.

وحسب تقرير لـ "رويترز"، نُشر منذ عام تقريباً، فإن إدارة أوباما كانت تلح على إقرار صفقات سلاح تقوم على تسليح جماعات تعمل بالوكالة، في صراعات مختلفة، وتدريبها. بطبيعة الحال، سوريا كانت ساحة من ساحات الصراع التي تم تنفيذ هذه السياسة فيها.

وبعد فوز ترامب في معركة الرئاسة، أعلن الخبراء في سوق السلاح الأمريكية، تفاؤلهم، بمزيد من الازدهار لهذا السوق. وأقروا بأن هذا الازدهار سيكون مرتبطاً باستمرار المخاطر الأمنية في الشرق الأوسط، وتنامي التوترات في آسيا وأوروبا.

وبالعودة إلى بشار الأسد، فإن الأخير مطمئن هذه الأيام، بصورة كبيرة. إذ أنه لا يمانع أن تتحول بلده إلى ساحة لاستعراض الأسلحة الروسية والأمريكية، ما دام يحظى بميزة خدمة ما بعد البيع. فالروس لا يمكن أن يسمحوا بإزاحة حليفهم، لأن ذلك يعني أنهم كبائعي أسلحة، غير جديرين بثقة طغاة العالم الراغبين في الحصول، أساساً، على خدمة ما بعد بيع السلاح، وهي الحماية الروسية.

ويدرك الأمريكيون ذلك. فهم لا يريدون تحويل الأمر إلى صراع مباشر مع الروس في سوريا. القضية مجرد استعراض أسلحة، وصفعة محدودة على وجه بوتين، بغية لجم اندفاعه الذي وصل به إلى حد تنفيذ هجوم بالغاز في لندن، للنيل من روسي كان جاسوساً للإنكليز. وفي نفس الوقت، وهذا بيت القصيد لدى الأمريكيين، الكشف عن "تخلف" السلاح الروسي مقارنة بالسلاح الأمريكي. وبوتين ابتلع الغصة، ما دام قادراً على الاستئساد على السوريين، لإثبات أنه حليف جدير بالثقة في أوساط الطغاة في دول العالم الثالث، ممن يريدون شراء السلاح الروسي، الأرخص ثمناً، وفي الوقت نفسه، نيل الحماية الروسية، الأقل جدارة من نظيرتها الأمريكية، ربما، لكنها تحقق الغرض، في نهاية المطاف، وهو بقاء الطاغية، على كرسي الحكم، مقارنة بالحماية الأمريكية، المكلفة للغاية، والتي يدفع السعوديون اليوم، أثمانها، بصورة باهظة للغاية، حتى لو تحت عنوان بناء قدرات دفاعية خاصة.

ترك تعليق

التعليق