نوادر وتفاصيل.. من ذكريات الحصار بجنوب دمشق


انطلاقاً من منطقة "جنوب دمشق"، بلدات "يلدا وببيلا وبيت سحم"، وأحياء "الحجر الأسود والعسالي والتضامن والمادنية ومخيم اليرموك"، وصولاً إلى مخيم "منطقة جنديرس" إحدى نواحي مدينة عفرين، قطع الثوار المُهجّرون أكثر من 600 كيلو متر، تاركين خلفهم منازلهم المُدمّرة وذكرياتهم المُتناثرة بين الركام والحُطام إثر استهدافها بالغارات الجويّة والقصف الصاروخي والمدفعي العنيف بذريعة الحرب ضد تنظيم الدولة.

حصار 2013

منطقة "جنوب دمشق"، كان يقطنها نازحون من الجولان السوري المحتل، وعائلات تنحدر من محافظة درعا، وفلاحون من ريف دمشق، ولاجئون فلسطينيون، وعدد لا بأس به من أبناء مُحافظات الشمال. خرجت هذه المنطقة عن سطوة نظام الأسد المُجرم أواخر العام 2012، وغادرها 60% من سكانها إثر تعرّضها لقصف همجي عنيف بكافة أنواع الأسلحة، ورزح البقية تحت حصارٍ خانقٍ مُنتصف العام 2013 من قبل "النظام" و"الميليشيات الشيعية الطائفية الأجنبية" المُساندة له، وقضى خلاله أكثر من 200 شخص نتيجة انعدام الغذاء والدواء، حيث بلغ حينها سعر الكيلو الواحد من الأرز والسكر أكثر من 150 دولاراً أمريكياً بينما بقي سعر كيلو العدس الأسود أدنى من 100 دولار أمريكي بسبب توفّره نسبياً، كما اعتمد الأهالي خلال الحصار على ما يجمعونه من بقايا الحشائش والصّبار "التي لا تتناولها الحيوانات" في البساتين "المقنوصة" والخبز المُبتكر خلال الحصار والمصنوع من مادّة العدس الأسود، وبلغ حينها سعر "كيس السيروم الملحي" 75 دولاراً بحسب ما قال لـ "اقتصاد" الناشط يمان الدمشقي.

وأردف الدمشقي أنّ الحصار الأول انحسر في الربع الأول من العام 2014 بعد هدنةٍ أبرمتها فصائل المقاومة مع قوات النظام التي أدخلت بموجبها الطعام والدواء للسكان المُحاصرين، إلّا أنّ ذلك لم يُخفّف عن المُحاصرين بسبب استنزاف كامل مُدّخراتهم المالية، خصوصاً وأنّ الحصار تحوّل من غذائي إلى مادّي، حيث كان "المال متوفّر والطعام مفقود" بينما بعد الهدنة أصبح "المال مفقود والطعام متوفّر" وسط غياب كُلي لسوق العمل والمنشآت التجارية، ليعتمد غالبية السكان في معيشتهم على ما يتلقّونه من مُساعدات مالية من أقاربهم وأصدقائهم المُهجّرين حول العالم، بالإضافة إلى ما كانت تُقدّمه بعض الجمعيات الخيرية من مُقوّمات صمود لا تسدًّ الرمق في الحدود الدُنيا، كما غادر من السكان الـ 40% المُحاصرين 20% آخرون، ليتبقى في المنطقة حوالي 150 ألف نسمة فقط في مساحات جغرافية صغيرة جداً تختلف فيما بينها بالسيطرة والأيديولوجيا.

الهدنة وبداية تطبيع

تركت الهدنة أثاراً سلبيةً على المُجتمع المُحاصر عبر توزيع المعونات الرسمية الواردة من "الهلال الأحمر السوري" و"وكالة الأونروا" بشكل مناطقي، لتفرض واقعاً مُجتمعياً دخيلاً ساهم في تفرقة الناس وتشتيت أولوياتهم وسط غياب قانون نافذ ومؤسسات "شعبية أو رسمية" حقيقية تُمارس عملها بشكل يُحافظ على وحدة المجتمع، حيث كانت تصل المُساعدات الغذائية لمنازل بعض الفئات الاجتماعية دون غيرها، وعبر بوابات الحواجز لجنسية مُعيّنة، بينما فئات أخرى وقفت في طوابير طويلة لتحصيل كيلو أو اثنين من مواد البطاطا أو البصل أو البندورة، وفي حال لم يُحالفها الحظ تشتريها من السوق بسعر مُضاعف، كما ميّزت الناس في الخروج من المنطقة والعودة إليها والتنقل عبر حواجز النظام، فمسموح لفئةٍ ما وممنوع لفئةٍ أخرى.

حصار 2015

تعرّضت المنطقة في مطلع العام 2015 لحصارٍ آخر استمر أربعة أشهر بلغ خلاله سعر الكيلو الواحد من مواد السكر والأرز والبرغل والعدس 50 دولاراً أمريكياً، وبالرغم من فرق الأسعار والمُدّة بين الحصارين إلّا أنّ الأخير كان وقعه أقسى على المُحاصرين بسبب الاستنزاف المالي "كما أسلفنا" وفقدان كُلّي لمادّة الزيت التي كانت مُتوفّرة وتُعدّ أهم العوامل المُساعدة في طهي الحشائش.

مُنشآت صناعية كثيرة كان من المُمكن استثمارها اقتصادياً وسياسياً وتشغيل الناس فيها، إلّا أنّ تعدّد القوى المُسيطرة في المنطقة أفقد الجميع تلك الميّزة وفقاً لما قاله لـ "اقتصاد" أحد الشباب المُهجّرين.

وأضاف الشاب: "أنهكنا أهالينا في مصاريفنا غير المتناهية، ورُبما لو توفّر لنا العمل الكريم لكان حالنا أفضل، وفي ذلك الجو الاقتصادي السلبي الذي عشناه تعطّل مُستقبل الكثير من الشباب، حيث لم يُفكّر ببناء أسرة منهم إلّا القليل تخوفاً من مُستقبلٍ مجهول أمام انعدام الثقة بكافة الاحتمالات الايجابية و طغيان الاحتمالات السلبية عليها".

نوادر!

ومن النوادر التي شهدتها منطقة "جنوب دمشق" في حصارها الأول استمرار الطلب على سيجارة نوع "الحمراء الطويلة" بالرغم من وصول سعر الواحدة منها لأكثر من 6 دولارات أمريكية بحسب ما ذكره لـ "اقتصاد" الناشط الإغاثي يزن جنجل.

ونادرة أخرى أضافها جنجل، فقدان الكلاب والقطط بمنطقة "جنوب دمشق" في ذات الحصار بعد إفتاء بعض المشايخ بتناول لحومها، كما عُرض كوب الشاي الواحد بـ 750 ليرة سورية وكوب الحليب بـ 1000 ليرة.

وحول حقيقة بلوغ سعر السيجارة الواحدة 6 دولارات، علق الشاب المُهجّر، "هي فكرة مجنونة حالها حال الكثير من الأفكار ذات الطابع الجنوني التي سادت في المنطقة ومنها التعرّض للقنص في البساتين مُقابل تحصيل جرزة واحدة من البقدونس أو الخبيزة أو الفجل في الوقت الذي كان يُباع فيه كيلو الفجل الواحد بـ 1000 ليرة سورية، بينما سعره الطبيعي بعد أمتارٍ قليلة لا يتجاوز العشرة ليرات". ويتساءل الشاب: "ماذا نفعل بالمال في حال لم نستطع شراء الطعام به؟".

واستطرد الشاب: "في واقع الحصار نشأت طبقة تجار انتهازية عوّمت شراء الفرش المنزلي من المُحاصرين بمبالغ صغيرة جداً، حيث بيع البراد أو الغسالة أو شاشة التلفاز بسعر 3 كيلو حليب أطفال لا أكثر، بينما كان سعره الحقيقي يتجاوز الـ 300 دولار على أقل تقدير".

حركة مُتباينة

اختلفت أسواق "جنوب دمشق" في الأسعار بعد اصطفاف القوى وتقاسم المنطقة ونشر الحواجز ما بين "الجيش الحر" في بلدات "يلدا وببيلا وبيت سحم والمادنية" و"تنظيم الدولة" في أحياء "الحجر الأسود والتضامن والعسالي ومخيم اليرموك". فكانت في أسواق سيطرة الأخير أكثر بـ10% إلى 30% من أسعار الأسواق في البلدات، بينما انعدمت كافة الحركة الاقتصادية في منطقة سيطرة "هيئة تحرير الشام" المُحاصرة من النظام والتنظيم بمساحة لا تتعدى 600 متر مربع في "حي الريجة غربي مخيم اليرموك".

رسمياً

وبالرغم من ارتفاع الأسعار على المُحاصرين في الأسواق بسبب ابتزاز التجار كانت المجالس المحلية في بلدات "يلدا وببيلا وبيت سحم" تفرض ضريبة على كافة المواد الواردة للمنطقة عبر المعبر الوحيد لها بين بلدتي "ببيلا وسيدي مقداد" وذلك لتمويل أعمال المجالس، الأمر الذي فرض ارتفاعاً آخر يدفعه المُحاصر المستهلك من جيبه بشكل تدريجي وناعم.

وعلى عكس ارتفاع أسعار الالكترونيات كالجوالات وأجهزة الطاقة الشمسية والبطاريات بنسب بين 10 و 20% مقارنة بأسواق العاصمة دمشق، كان يتدنى سعر صرف العملات في "جنوب دمشق"  بين  10 و 20%.

إلى المجهول الجديد

حاول النظام فرض عدّة خيارات تُناسبه على ثوار "جنوب دمشق" منها خيار قتال "تنظيم الدولة" بإشرافه وتقديم الدعم اللوجستي اللازم، فكان قرارهم الانتقال من المجهول إلى المجهول حاملين في جعابهم طموح تحصيل خيارات أوسع منها الاستقرار في مجتمعٍ تسود فيه العدالة بكافة جوانبها لا سيما الاقتصادية منها والتي تنعكس مُباشرةً على كُلّ فرد.

ترك تعليق

التعليق