الاقتصادي حافظ الأسد.. ما الذي حدث في التسعينيات؟


كادت سوريا أن تنقلب رأساً على عقب في الفترة من عام 1992 إلى عام 1995، لناحية الانتعاش الاقتصادي بعد سنوات طويلة من الحرمان وحصار النظام للشعب.. فعادت دورة المشاريع الحكومية للانطلاق، وانخفضت الأسعار وتوفرت السلع بجميع أنواعها، وافتتحت المعامل الخاصة، وتنشط سوق العمل. واللافت في تلك الفترة هو فتح دول الخليج أبوابها على مصراعيها أمام السوريين، حيث وصل عددهم إلى أكثر من مليون سوري خلال بضع سنوات، وهؤلاء كان لهم أثر كبير في إنعاش الاقتصاد السوري.

لكن كل ذلك توقف فجأة بعد العام 1995، وعادت سوريا إلى الانكماش الاقتصادي من جديد، إلى أن مات حافظ الأسد في العام 2000.

فما الذي حدث..؟، ولماذا قرر النظام الانفتاح ومن ثم الانكماش على نفسه..؟، وما أهمية تلك المرحلة اقتصادياً في التأسيس لما بعدها، مع قدوم بشار الأسد إلى السلطة..؟.. هذا ما سنحاول فك رموزه عبر هذا المقال.

الانفتاح الاقتصادي

وصل النظام السياسي في سوريا بعد سنوات الثمانينيات العجاف، إلى قناعة أن الدولة ليس بوسعها أن تكون أباً، يصرف على أولاده ويلبي جميع طلباتهم، بل لا بد لمن هو قادر من الأولاد، أن ينطلق ويعمل، ويساعد الأب في تغطية مصاريف الأسرة..

وبناء عليه، تم إصدار المرسوم رقم 10، الذي كان اللبنة الأولى، في فتح باب الاستثمار في سوريا للقطاع الخاص، وكان ذلك في العام 1991، أي بعد حرب الخليج الثانية، وقبيل انهيار الاتحاد السوفييتي بقليل، الذي أعلن منذ نهاية الثمانينيات تخليه عن الدول الشعاراتية، التي من بينها سوريا.

لقد تم اتخاذ قرار الانفتاح، بعد بيانات اقتصادية مرعبة، وصل فيها حجم الدين الخارجي إلى أكثر من عشرين مليار دولار، بينما اتضح على مستوى مشاريع البنية التحتية، بأن البلد بحاجة إلى تطوير منشآتها وفي جميع القطاعات، وهو ما لم تكن الدولة تعمل عليه في السابق.

لذلك لمن عاش في تلك الفترة، يعرف بأن انقطاع الكهرباء كان برنامجاً يومياً، استمر منذ منتصف الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات.. أي حوالي عشر سنوات.. وهو قطاع اتضح بأنه بحاجة إلى استثمارات تفوق قيمتها العشر مليارات دولار، حتى يحافظ على استقراره. بينما في العام 1991 أعلن النظام عن موازنة عامة للدولة، بنحو 70 مليار ليرة سورية، أي أقل من مليار ونصف المليار دولار.

في الحقيقة، لم يكن قانون الاستثمار رقم 10، مدروساً بشكل صحيح، بحيث أن أكثر من 90 بالمئة من الاستثمارات، توجهت إلى قطاع النقل، الأكثر ربحية ومردودية.. فامتلأت الشوارع بالباصات والسيارات من شتى الأنواع، ليتضح فيما بعد بأن البنية التحتية الطرقية لم تكن مهيأة لاستقبال هذا العدد الكبير من الآليات، فحدثت الاختناقات، وتحولت المدن الرئيسية، إلى جحيم يصعب العيش والتنقل بها.

ومن جهة ثانية، اكتشف النظام بأن الانفتاح بحاجة للكثير من الأموال الحكومية لاستثمارها في البنية التحتية، وهو أمر تحقق له، بعد حرب الخليج الثانية، ووقوف حافظ الأسد إلى جانب التحالف الدولي ضد العراق، فكان أن حصد أموالاً طائلة من دول الخليج، بالإضافة إلى انفتاح أمريكي وغربي عليه، ما كان يحلم به من قبل.

لقد خرج حافظ الأسد في تلك الحرب منتصراً على مستويين، الأول أنه شعر أن قراره الذي اتخذه بالوقوف إلى جانب إيران ضد العراق في حرب الخليج الأولى، في العام 1980، كان صائباً، أما الثاني، فقد استثمر هذا الأمر لابتزاز دول الخليج، الذين تراكضوا لإرضائه، والتكفير عن ذنوبهم التي ارتكبوها بحق حافظ الأسد على مدى عشر سنوات.. فتعهدت كل من السعودية والكويت، بمد شبكة الصرف الصحي في دمشق على نفقتها، بالإضافة إلى تطوير شبكة الهاتف الأرضي على كامل الأراضي السورية، وعلى نفقتهما كذلك.. وقامت هاتان الدولتان على وجه التحديد، بالإضافة إلى دولة الامارات، بالاستعانة بالعمالة السورية، والمدرسين السوريين، الذين أخذوا ينطلقون جماعات، في هجرة، كان لها الدور الأكبر في إنعاش اقتصاد المواطن السوري.

وبالفعل، حتى العام 1995، حدث انقلاب نوعي في الحياة الاقتصادية في سوريا، وانهال السياح الخليجيون على سوريا، لكن كل ذلك لم يوقف هجرة العمالة السورية، التي انطلقت إلى لبنان على وجه الخصوص، حتى وصل عددها إلى أكثر من مليون سوري، وكانت هذه الهجرة تشمل كل الطوائف باستثناء أبناء الطائفة العلوية، الذين كانوا الأكثر حظاً في الحصول على فرص الوظائف الحكومية. أما على صعيد الاستثمار وتطويره، فقد أوقف حافظ الأسد الاهتمام بتطوير هذا القطاع منذ العام 1993، معتمداً على المساعدات الخليجية، في تكرار لتجربة السبعينيات، عندما كانت هذه المساعدات هي الحامل لاقتصاد الدولة..

العودة للانغلاق

في مطلع العام 1994، مات باسل الأسد، ابن حافظ الأسد، الذي كان قد حاول تقديمه للمجتمع السوري، على أنه يحارب الفساد، وخاض معارك كثيرة حتى مع أبناء عمومته، في محاولة لمكافحة التهريب، الذي أصبح مهنة أساسية لعائلة الأسد ولضباط المخابرات، وتسبب بإثراء فاحش لهم، وبنفس الوقت، أفقر الدولة، وحرمها من عائدات اقتصادية كبيرة، تقدر بمليارات الدولارات..
 
لقد كان موت باسل بمثابة القشة التي كسرت ظهر حافظ الأسد، في الوقت الذي كان يعده لوراثته في الحكم، بعد فشله في التفاهم مع أخيه رفعت واضطراره لإبعاده عن سوريا.. فشعر حافظ الأسد وكأنه أصبح أعزلاً بعد موت باسل، الذي كان يقوم مقام والده في التعامل مع أجهزة الدولة، في وقت بدأت فيه صحة الأسد الأب تتراجع جراء معاناته من مرض سرطان الدم.

لذلك قرر حافظ الأسد، أن تتوفى الدولة كلها مع موت ابنه باسل، فتوقف كل شيء تقريباً منذ العام 1995، ولم يعد أحد يجرؤ على الحديث عن الاقتصاد والتنمية والانفتاح، وانشغل الأسد بإيجاد بديل لابنه باسل، فكان أن وقع اختياره على بشار، الذي أخذ يعده ويدربه، من أجل أن يورثه الحكم، متجاهلاً شؤون البلد والناس، لدرجة أنه لم يقم بزيادة الرواتب منذ العام 1993 وحتى موته في العام 2000، بينما خلال تلك الفترة، حدث تضخم كبير في الأسعار، واشتد الغلاء، وأصبح مصدر رزق الناس، معتمداً على تحويلات المغتربين بالدرجة الأولى، وعلى فرص العمل التي يوفرها هؤلاء في موسم الصيف، وعلى اليد العاملة في لبنان.. أما بالنسبة للفساد والسرقة، فقد ازداد أضعافاً مضاعفة عما كان عليه في فترة الثمانينيات، وبدأ يأخذ شكلاً حضارياً، عبر صعود طبقة من المهربين وأبناء رجالات المخابرات في نهاية العام 1997، تحت غطاء رجال الأعمال والاستثمار، وهذه الفئة سوف يكون لها دور كبير بعد تولي بشار الأسد للسلطة بعد العام 2000. أو أنه يمكن القول، أنها هي من طبعت هذه المرحلة بطابعها.. وهو ما سنتحدث عنه لاحقاً.. لكن قبلها سوف نتوقف عند أبرز رجال الاقتصاد في عهد حافظ الأسد، وعلى رأسهم عبد الرؤوف الكسم، رئيس الوزراء لسبع سنوات.. وهو ما سيكون محور حديثنا في المقال القادم.

ترك تعليق

التعليق