اقتصاديات .. ضابط مخابرات أشبه براعي غنم


في منتصف العام 2012، استأجرنا مكتباً في مدينة إربد الأردنية، كنا مجموعة من الصحفيين المحترفين، وذلك للقيام ببعض الأعمال الإعلامية الداعمة لعمل الناشطين في الداخل.. راعنا منذ البداية رخص أجار المكتب الذي كان مفروشاً بالكامل، وبحالة ممتازة، بينما أجاره لا يتجاوز الـ 200 دينار أردني في الشهر، وهو رقم صغير قياساً لأسعار الأجارات التي شهدت في تلك الفترة ارتفاعاً كبيراً في الأردن نتيجة لجوء عشرات الآلاف من السوريين إليه.

لم يطل استغرابنا سوى بضعة أشهر، لنكتشف بعدها أن صاحب البيت ليس إلا لواء في الجيش والمخابرات الأردنية، والذي أعلمنا كذلك، بأنه جرى ترتيب تأجيرنا للبيت وعرضه علينا رخيصاً من أجل حمايتنا بحسب قوله، وليس من أجل مراقبتنا والحد من أنشطتنا.. لكنه بعد أن كشف عن هويته، طلب مباشرة رفع إجار البيت، وبشكل يتناسب مع الأسعار الرائجة.

أذكر من حواراتنا مع صاحب هذا البيت، الذي كنت تعتقد للوهلة الأولى بأنه ليس أكثر من راعي غنم، بسبب بساطة لباسه، أنه كان يخبرنا عن علاقات بلاده التي لم تنقطع أبداً بمخابرات النظام، وحدثنا عن علاقاته الشخصية ومعرفته المباشرة، بشخصيات مخابراتية كبيرة مثل علي مملوك وجميل الحسن ومحمد ناصيف وغيرهم الكثير من الأسماء التي كانت ترعب الشعب السوري، بينما هو كان يتحدث عنهم وكأنهم أبناء صف واحد في المدرسة الابتدائية، ويصفهم بكلمات مثل حمار وجحش، ثم يضحك من كل قلبه، على مواقف ونوادر يتذكرها بصحبتهم دون أن يرويها لنا.

كان هذا اللواء الأردني فارغاً بكل معنى الكلمة، لا يهتم لا بالسياسة ولا بالاقتصاد ولا بالثقافة، ولا بأي شيء على الإطلاق، حتى أن حديثه ومواضيعه التي يناقشها، كانت تشبه أحاديث العجائز الذين يجلسون أمام المساجد قبيل الصلوات، أو في حواري الأحياء الشعبية قرب البيوت، لدرجة كنا نتساءل فيما بيننا باستغراب، هل من المعقول أن يكون كما يدعي..؟

أحد المرات، وكنا نناديه بأبو فلان، "لم أعد أذكر اسمه"، جاء إلى البيت من أجل أن يأخذ الأجار وكان منشرحاً ومنفتحاً وكأنه تناول للتو "حبة" الصراحة التي تحدث عنها الكاتب المصري يوسف السباعي في روايته "أرض النفاق"، فقال لنا: "هل أنتم تصدقون الموقف الأردني الداعم للثورة السورية..؟"، تابع وسط اندهاشنا لسماع المزيد: "الأردن بلد صغير وضعيف الموارد، ولا يستطيع أن يتحمل عبء أي موقف سياسي كبير على هذا النحو، ويجب أن تفهموا أنتم السوريون بأن الأردن لا يقود موقفه، وإنما ينفذ مواقف دول أخرى أكثر قوة منه، مقابل الدعم الاقتصادي والمالي والسياسي"..
 
وأضاف: "من جهتي، وأظن هذا موقف الحكومة الأردنية، نرغب بتغيير النظام في سوريا، فهو نظام متعب لجيرانه وكاذب، لكننا لا نشعر بالعداوة معه.. ويجب أن لا تنسوا كذلك أن سوريا هي متنفس الأردن الاقتصادي الوحيد، لذلك لن يستطيع الأردن الصمود طويلاً إذا تخلت عنه الدول الداعمة، وسوف لن يتوانى في أي لحظة عن إعادة علاقاته الجيدة مع النظام السوري"..
 
أتذكر اليوم هذا الكلام، في أعقاب فتح معبر نصيب الحدودي، بعد أن رفضت الأردن عدة مرات فتحه وإدارته من قبل المعارضة.

كما أتذكره، وسط الدعوات التي بدأ يطلقها سياسيون أردنيون بارزون مثل ليث شبيلات، يطالب فيها رئيس حكومة بلاده بمصالحة نظام الأسد فوراً لحل أزمات الأردن الاقتصادية.

وعلى فكرة، ليث شبيلات هذا، التقيت به في جنيف في العام 2013، وعلى مدى أربعة أيام، خلال حضور أحد المؤتمرات، ولم أحبه على الإطلاق، ولم أحب حديثه ولا حتى مرافقه الذي كان يتابعه كما ظله، والذي كان يخشى من الاعتداء عليه، فيراقب المسافة التي تفصل بينه وبين كل من يقترب منه ليحدثه.

كانت أفكاره تفوح منها الروائح الكريهة، على الرغم من أنه كان يغلفها بخطاب المحبة والإنسانية، والتسامح الإسلامي، لكنه لم يكن يقبل على الإطلاق أن ينتقد أحدهم إيران أمامه.. كان يتحول على الفور إلى ثعلب ماكر، يسبل لحيته بين يديه ثم يقول لك بعد أن يحدق فيك بعيون جارحة: أليسوا مسلمين..؟

قلت له في ذلك الوقت، وأنا أسمعه يتحدث عن إيران باشتهاء غريب، "تضرب إنت وإيران"، قلتها في قلبي طبعاً، وهو أضعف الإيمان..!


ترك تعليق

التعليق