حكاية إدلبية عن "كسوة الشتاء"


"هذه ثياب الأولاد يا أم عدنان" قالها أبو عدنان بصوت خافت مدارياً خجله الذي أبى إلا أن يظهر على ملامحه وعلى نبرة صوته الغارقة في الحزن. رمى الثياب جانباً في إحدى زوايا المنزل وخرج إلى الشرفة ليشعل سيجارة من ذلك النوع الرخيص ذي الرائحة الكريهة وغرق في التفكير بينما كانت لفافات الدخان تتطاير فوقه كزوبعة صغيرة. قبل يومين وبينما كانا يحتسيان القهوة في أحد الصباحات الخريفية على شرفة منزلهما بمدينة إدلب همست زوجته في أذنه بالعبارة التي يخشاها مع حلول كل شتاء من شتاءات الثورة. "أتى البرد مبكراً هذا العام علينا المسارعة بكسوة الأولاد".

كيف يشتري ثياب الشتاء لأطفاله الأربعة؟.. يتساءل في حيرة كبيرة.. "بإمكاني شراء ثوب أو ثوبين لمحمد فهو لا يزال صغيراً لكن كيف سأكسو الأولاد الكبار سعاد ومنال وعدنان؟" يتحدث بينه وبين نفسه محاولاً إيجاد الحل المناسب. "يالها من معضلة كبيرة" يردد أبو عدنان ويقوم إلى سوق المدينة حيث يعمل أجيراً في إحدى البقاليات وسط المدينة.

لا ينسى أثناء سيره إلى العمل المرور بسوق الثياب الذي أصبح مزدحماً مع بداية الموسم الشتوي. في ظل الحرب والأزمات التي لا تنقضي أضحى شعور المرء بالبرد مضاعفاً إذا ما قارناه بالسنوات السابقة. لذلك "لابد من تدفئة أجساد الصغار بأي وسيلة ممكنة".

في السوق سأل عن ثياب لطفله الصغير الذي لم يتجاوز السنتين فلم يجد إلا ملابس مرتفعة السعر لا يكفي مرتبه الأسبوعي لشراء ثوبين منها. بعد دقائق من هذه "الجولة المسمومة" بدأ يراوده الشعور بالاكتئاب "هذا الشعور الذي يطال معظم الآباء والأمهات وهم يتجولون بين متاجر الملابس في إدلب". لم ينظر في وجه البائع وهو يعرض عليه الملابس الخاصة بالأطفال "هذا البنطال الجنز والكنزة الصوف ستبدو رائعة جداً على طفلك" كانت عيناه تدوران وتدوران فسعر كل قطعة يتجاوز الـ 3 آلاف ليرة أي "ربع المرتب الأسبوعي".

تذكر طفلته الجميلة "منال" التي بلغت العاشرة مع بداية الخريف وهو يتفحص فستاناً زهري اللون "تحب الصبية اللون الزهري كثيراً" لكن سعره الباهظ جعله يغادر المحل، حتى.. دون أن يلقي السلام.

ابنته سعاد غدت في الخامسة عشرة. إنها بحاجة لمانطو جديد. سمعها البارحة وهي تتحدث مع أمها عن خجلها من عبائتها البالية التي تلبسها كل يوم خلال ذهابها إلى المدرسة. لكن كيف يشتري المانطو وسعره يتجاوز 13 ألف ليرة؟.. كان هذا السؤال أشبه بالدوران في حلقة مفرغة.

اليوم أعطاه صاحب البقالية التي يعمل فيها أجرة الأسبوع. حمل الـ(12 ألف ليرة) قاصداً سوق الثياب. هم بشراء ثوب لصغيره محمد. لكنه تذكر بقية الأولاد. رص أوراقه النقدية بين أصابعه وغادر السوق.

وعلى طريق العودة لمح بسطة لبيع ثياب البالة. كانت الزحمة شديدة حول التاجر الشاب الذي ينادي بصوت مرتفع "القطعة بـ 200". اختار مجموعة من الثياب المتعددة المقاييس ودفع للبائع مبلغ 7 آلاف ليرة وذهب مسرعاً نحو البيت. ومع طرقاته على الباب وسماعه لأصوات أطفاله الذين يلعبون داخل الشقة تمنى لو أن الأرض تنشق لتبلعه مع صرة الملابس التي يحملها فـ "الموت بأي طريقة كانت؛ أهون بألف مرة من حالة القهر" التي يعيشها.

ترك تعليق

التعليق