اقتصاديات.. حلب، المدينة التي احتقرها بشار الأسد


في الشهر التاسع من عام 2010، ذهبت برحلة لمدة أسبوع إلى حلب، بهدف إنجاز فيلم وثائقي عن المدينة الصناعية في الشيخ نجار، بعد فيلمين كنت قد أنجزتهما برفقة الصديق المخرج كريم عبد الرحيم، أحدهما عن مدينة عدرا الصناعية بدمشق، والثاني عن مدينة حسيا في حمص.

الأفلام الثلاثة كان قد طلبها رجل الأعمال المعروف محمد حمشو، لصالح تلفزيون الدنيا، وأصر على إنجازها، مهما بلغت تكاليفها، لأسباب قال إنه يهدف من خلالها إلى تشجيع الصناعة والاستثمار في سوريا، بينما على أرض الواقع كان حمشو يخطط لما هو أبعد من ذلك بكثير، فهو لا يعمل بالصناعة إطلاقاً، وأغلب الظن أنه كان يريد أن يزايد على القيادة السياسية من أجل الحصول على امتيازات إضافية..
 
وفي حين تم عرض الفيلمين عن عدرا وعن حسيا، فإن فيلم الشيخ نجار لم يعرض حتى يومنا هذا، وذلك بسبب خلاف وقع بيني وبين إدارة التلفزيون أثناء الإعداد للفيلم، تركت على إثره العمل، فيما لم يستطع أحد غيري التعامل مع الأشرطة التي كنت قد صورتها في حلب، لأني ببساطة رفضت تسليمهم السكريبت الخاص بالفيلم، ما لم يتم تخليص حقوقي المالية، وهو ما لم يحدث حتى هذه اللحظة.

حلب.. المدينة المختلفة

على أيه حال، في حلب، كان الأمر مختلفاً عما كان عليه في عدرا ومدينة حسياء الصناعية في حمص، وكان محافظها علي منصورة، الذي تم نقله من السويداء إلى حلب، يتحدث عن المدينة وكأنه جاء إليها غازياً، بعد توجيهات تلقاها من بشار الأسد شخصياً، بحسب قوله، أوصاه فيها بأن يحكم المدينة بقبضة من حديد.

وبالفعل خلال تولي علي منصورة، ذي الخلفية الأمنية المعروفة، محافظاً لـ حلب، شهدت المدينة ضغطاً أمنياً كبيراً، كان ظاهره ضبط المدينة التي وصف المحافظ شعبها بأنه "همجي وسرسري"، لكن في الأعماق كان هناك أهداف أخرى لبشار الأسد، الذي حاول أن يظهر حبه لحلب من خلال خصها بعدد من الزيارات والإقامة فيها لعدة أيام، ومن جهة أخرى، كان يعمل على تحطيم بنيتها الاجتماعية والصناعية والتجارية، عبر العديد من القرارات التي كان لها الأثر الكبير في تراجع مكانتها كعاصمة صناعية لسوريا.

ولعل أولى الحركات التدميرية التي قام بها بشار الأسد تجاه حلب، كانت تعيينه رئيساً للوزراء من مدينة حلب، وهو محمد ناجي عطري في العام 2004، المعروف بجشعه ومعاداته لطبقة الصناعيين الحلبيين، ومن ثم إرساله لسليمان معروف، رجل الأعمال المقرب منه، لكي يذهب ويستثمر هناك في العام 2005، في مجال السياحة والفندقة، في محاولة لزرع "رامي مخلوف" آخر في حلب، لقناعته بأن رجال الأعمال الحلبيين من الصعب طيهم وإلحاقهم بمشروعه الاقتصادي بدون خلق منافس حقيقي بينهم. وأخيراً، كان الانفتاح على تركيا في العام 2009، وإغراق الأسواق الحلبية بالبضائع التركية المنافسة. وهو ما سنأتي على ذكره لاحقاً ومدى تأثيره في تدمير الصناعة الحلبية.

لكن سرعان ما اتضح أن حلب أكبر بكثير من أن يستولي بشار الأسد على تجارها وصناعييها، عبر سليمان معروف.. فقد فشل هذا الأخير بإثارة الاهتمام حوله داخل المجتمع الحلبي، كما فشل في التقرب من رجال الأعمال الحلبيين، الذين كان أغلبهم يرتبط بعلاقات تجارية خارج الحدود، وبعضهم بنى امبراطوريات صناعية، ويمتلك آلاف العمال الذين يخضعون لسلطته مباشرة، بعيداً عن طبيعة النظام السياسي والاقتصادي الذي يحكم البلد.

ولعل الزائر إلى حلب، كان يشعر على الدوام وكأنه انتقل إلى دولة أخرى، لا علاقة لها بالدولة السورية، فهي مدينة كان لها طابعها الخاص بكل شيء، بما في ذلك القوانين والأعراف السياسية التي تحكمها، إذ أن المجتمع الحلبي كان يقسم إلى طبقتين: عليا، وهي طبقة التجار والصناعيين الكبار، وطبقة دنيا، وهي طبقة العمال والصنايعية.. وهاتان الطبقتان لم تكونا تهتمان بمن يحكم البلد، وحتى من يكون بشار الأسد ذاته.. هذا بالإضافة لطبقة رجال الدين، التي كانت بمثابة الطبقة الانتهازية التي يتنازع السيطرة عليها، كل من النظام وطبقة التجار، لقيادة وتوجيه عامة الشعب في حلب.

في رحاب المدينة الصناعية بالشيخ نجار

عندما انطلقنا بالعمل على الفيلم الوثائقي عن مدينة الشيخ نجار الصناعية، فوجئنا بعدم اهتمام الصناعيين الحلبيين بالحديث للإعلام، بعكس ما حدث معنا في مدينة عدرا وحسياء، وأغلبهم أجرينا اللقاءات معهم عنوة وبعد وساطة من فارس الشهابي، رئيس غرفة صناعة حلب، والمحافظ علي منصورة، الذي عرض علينا تزويدنا بمرافقة من طرفه، من أجل أن يبدو عملنا رسمياً، ولمعرفته، بأن آخر ما يهتم به الصناعيون الحلبيون هو الظهور على التلفزيون.. لقد قال لنا ساخراً: "يشعرون بأنفسهم بأنهم أكبر من الدولة"..
 
إلا أننا سرعان ما اكتشفنا بأن الأمر ليس له علاقة بالنزعة الفوقية التي يتميز بها رجال الأعمال الحلبيون، وإنما بطبيعة الانفتاح الاقتصادي على أنقرة، الذي أعطى بموجبه، بشار الأسد، امتيازات تجارية لتركيا، كان يعلم سلفاً أن المتضرر الأكبر منها، هو الصناعة الحلبية، أو أنها المتضرر الوحيد.

هذا بالإضافة إلى ممارسة الضغوط على الصناعيين الحلبيين لنقل منشآتهم إلى المدينة الصناعة في الشيخ نجار، وهو ما لم يكن ممكناً على الإطلاق، بسبب أن بعضهم كان قد بنى منشآت صناعية في مناطق بالقرب من حلب، بلغت تكلفتها مليارات الليرات السورية.

في تلك الفترة، كانت صناعة النسيج الحلبية، تنهار رويداً رويداً، وبدأت الكثير من المنشآت والورش بإغلاق أبوابها، والعديد من الصناعيين أخذوا بالتحول للتجارة، وبالذات مع الصين.. أما التجار الكبار أمثال حسن زيدو، رئيس غرفة تجارة حلب آنذاك، فقد رفض الحديث إلينا، وأسمعنا كلاماً بأننا قادمون من دمشق لزيادة الضرب في معاناة الصناعيين والتجار الحلبيين، وليس لنقل مشاكلهم، وقال لنا بالحرف: "دعوا الناس في حلب وشأنهم"..

باختصار، وبالرغم من محاولات فارس الشهابي لوصلنا مع الصناعيين الذين يمثلون وجهة نظره في النظام، إلا أننا استطعنا الافلات من توجيهاته والتقينا بعدد كبير من الصناعيين، الذين قالوا لنا صراحة بأن هناك تعمد من قبل القيادة السياسية لزعزعة مكانة حلب الصناعية في سوريا.

والبعض فسر هذا الأمر، بإجبار الصناعيين الحلبيين على الانتقال بمنشآتهم إلى المنطقة الساحلية، وقد حدث في ذلك الوقت، أن بنى الكثير منهم معامل هناك، وبمزايا تشجيعية، لم تكن متوفرة لهم بحلب.

أما البعض الأخر، فقد رأى أن النظام عجز عن إلحاق أثرياء حلب، بامبراطورية رامي مخلوف الاقتصادية والمالية، لذلك هو يحاول تدمير موقع حلب الاقتصادي ونقله إلى دمشق. فمن بين مئات رجال الأعمال والصناعيين الحلبيين، لم ينتمي لمخلوف سوى اسمين أو ثلاثة، هم فارس الشهابي وهاني عزوز، المسيحي، الذي سلمه بشار الأسد حق احتكار تجارة الأخشاب إلى سوريا، أما الثالث فهو الصناعي المعروف، محمد صباغ شرباتي، الذي سرعان ما أصبح عدواً للنظام ومحارباً في أعماله، من قبل رئيس الوزراء محمد ناجي عطري، أحد شركائه السابقين في بعض المشاريع.

دلالات ما بعد الثورة السورية

يمكن الملاحظة أن مدينة حلب هي آخر من ثار على النظام في سوريا، وهي أكثر مدينة تعرضت للدمار على يده، وبصورة انتقامية، لم يكن الهدف منها إخماد ثورتها، وإنما تدمير كل معالمها المميزة، التاريخية والصناعية والتجارية والاجتماعية.

كما أن حلب أكثر مدينة تعرض سكانها للتهجير الداخلي والخارجي، بنسبة تزيد عن الـ 70 بالمئة، وأغلبهم لم يسمح لهم بالعودة، رغم سيطرة النظام عليها منذ أكثر من سنتين، وعودة الهدوء والاستقرار إليها، بمساعدة القوات الروسية التي تدير الأمن في المدينة.
 
وحلب هي المدينة الوحيدة التي سمح النظام بنهب مصانعها وتدميرها وبيعها، ولم يقم بأي جهد لتوفير الحماية لها، بل يعتقد الكثيرون بأن أدواته ورجالاته هم من قاموا وبشكل مقصود، بهذه الأعمال التخريبية بحق الصناعة الحلبية. بينما لم يحدث نفس الشيء في باقي المدن التي ثارت على النظام مثل المدينة الصناعية في حمص والمدينة الصناعية في دمشق، فهما لم تتعرضا لأي أذى ولم تتعرض المنشآت الموجودة فيهما، للنهب والتخريب، على الرغم من أن الأعمال القتالية التي كانت تجري بالقرب منهما.

وأخيراً، حلب هي أكثر مدينة رحل عنها أثريائها ورجالات أعمالها، ويعتقد الكثيرون أن أكثر من 90 بالمئة من الصناعيين الحلبيين، انتقلوا بأعمالهم بشكل نهائي إما إلى تركيا أو إلى مصر أو السودان وغيرها من الدول. ولم يتبق اليوم في حلب، من بين آلاف المعامل والمنشآت والورش، سوى بضعة مصانع، لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، أغلبها متوقف عن العمل.
 
خاتمة

يرى الكثير من المحللين السياسيين، أن روسيا أدركت بشكل مبكر نوايا بشار الأسد ونظامه، برغبته بتدمير حلب، صناعياً وعمرانياً وسكانياً، لهذا كانت أول مدينة تعيد السيطرة عليها، قبل أكثر من سنتين، كما أنها المدينة الوحيدة التي تدار من قبل روسيا، ولا يسمح لبشار الأسد بزيارتها، أو لقواته بلعب دور كبير فيها.

ومن جهة ثانية، فإن تركيا على نحو واضح، تضع عينها على حلب، وهي تتمدد باتجاهها، فيما يتم تسريب أخبار، تتحدث عن مباحثات مع الروس، تتعهد فيها تركيا بإعادة إعمار المدينة، مقابل أن يكون لها دور كبير في السيطرة عليها.

وما يؤكد الرغبة التركية، أنها عندما بدأت بفتح الجنسية التركية للسوريين المتواجدين على أراضيها، فإن أغلب من حصل عليها، ليس أبناء درعا أو القنيطرة أو غيرهم من المحافظات السورية، بل أبناء حلب تحديداً، فهم من حظوا بالأولوية في الحصول على هذه الجنسية..

ويرى الكثير من المحليين، أن تدمير حلب ومدينة الموصل، كان مخططاً له دولياً، باعتبارهما أهم مدينتين سنيتين في سوريا والعراق.. ففي حين قامت قوات التحالف الدولي بتدمير الموصل، فإن بشار الأسد تعهد لوحده بتدمير حلب وتهجير سكانها.

والبعض الآخر، يتحدث عن سبب الحقد الأسدي على مدينة حلب، بأنه يعود إلى الدولة الحمدانية التي امتدت إلى الموصل، والتي كانت الدولة العلوية الوحيدة في التاريخ، ثم سقطت على يد الفاطميين.

فعلى ما يبدو أن بشار الأسد وطائفته، لا يزالون ينظرون إلى الحلبيين على أنهم وافدون، وقد سرقوا منهم دولتهم التاريخية، التي يجب أن تعود إليهم.

ومهما يكن من شأن هذه التفسيرات التي تتحدث عن سبب الحقد الأسدي على مدينة حلب، لكن هذا لا ينفي أننا اليوم أمام واقع لا مفر منه، بأن الصراع الدولي على سوريا، إذا كان حقيقياً، فإن حصة حلب من هذا الصراع، تتجاوز النصف، إن لم يكن أكثر.

ترك تعليق

التعليق