مرضى دمشق في أسواق الاستثمار


على غرار القطاعات الصّناعية والتّجارية والسّياحية والنّقل والبناء، يرفع أكثر الأطباء في العاصمة دمشق أسعار المُعاينة بشكلٍ جنونيٍ رهيب، مُعتبرين مرضاهم سلعةً تجاريةً مُدرّة للأرباح في عالم الثراء.

يشكّلُ جشعهم عاملاً إضافيّاً مُساعداً لتفاقم الوضع الاقتصادي لمن تبقّى من الأُسر مُتوسطة الدّخل والفقراء، وأبناء الطبقة المعدومة الّتي فرضت ذاتها كنتاجٍ طبيعيٍّ لحربٍ عمياء، واقعهم حرمانٌ من أبسط الحقوق، لا غذاء، لا عمل، لا دفء، لا كهرباء، ليُزيدهم الأطبّاء عناءً فوق شقاء.

أطباءٌ لم يستوعبوا مستوى البطالة المُرتفع، وتدنّي أُجور المُوظّفين في القطاعين العام والخاص والعامل الشّاب المندفع، بل هم أكثر من يعلم، لكنّهم فضّلوا عرض نخبويتهم للبيع في أسواق التسلّط والاستغلال والابتزاز لملئ حصّالاتهم على حساب مريضٍ يلجأ إليهم مُجبراً لا مُخيّراّ، لا مُحامي عنه يُرافعُ ويُدافع.

أهي سلعةً كماليةً حتّى تُحلّق أجورها عالياً بحقّ المريض المظلوم؟

قبل العام 2011، كان سقف أجور المُعاينة في عيادة طبيّة خاصّة لا يتجاوز 700 ليرة سوريّة، أي 14 دولار أمريكي، وكانت حينها الأجور الشهرية للعاملين في القطاعين الخاص والعام والأعمال الحرّة مُتقاربة وسطيّاً بحوالي 400 دولار أمريكي ومع ذلك كان المواطن مهموم.

أمّا اليوم، أجور العاملين في أحسن حالاتها لا تتجاوز 70 دولاراً ولا تدوم، بينما أجور المُعاينة في حدودها الدُنيا 3 آلاف ليرة سورية يُرافقها أسعار لا يُستهان بها لوصفة الدواء المُصنّع محليّاً بشكلٍ غير مُراقبٍ أو معلوم.

فكيف يسبح المريض في بحر دهائهم وقد أدرجوه بمنطق حسابات الخسائر والأرباح الملغوم؟

هجرة عدد لا بأس به من الأطباء أثّر على الواقع الصحّي سلباً، وفسح لتجاوزات ضعاف النفوس مجالاً واسعاً، فلا منطق لرفع أجرة المُعاينة في خضم غياب المُستهلكات والأجهزة الجديدة جراء الانعزال عن العالم بتاتاً.

معايير رفع السعر مُتوفّرةً بنظرهم ويرونها لهم حقّاً، المزاجيّةُ أولاً، يليها جغرافيّة العيادة ثُمّ التميّز في ديكوراتها.

ومن المعروف أنّ سقف المُعاينة لدى طبيب عيادته في حيٍّ شعبيٍّ لا تتجاوز 5 آلاف ليرة علناً، بينما أدناها وسط المدينة والأحياء الراقية 10 آلاف ليرة جهراً، علماً أن التسعيرة الرسمية للمُعاينة في عام 2014 لدى طبيب اختصاصي لا تتجاوز 2000 ليرة حصراً.

هنا لا بُدّ من التذكير، إحدى الظواهر التي طفت على سطح الواقع الصحّي المرير والمنافسة المُعنونة بقلّة الأخلاق وانعدام الضمير، بعض الأطبّاء وظّفوا أشخاصاً لإطلاق شائعات تنفير، بحقّ زملاء لهم أمام العيادات الطبّية والأماكن العامّة، ليصطادوا زبائنهم دون إعلاناتٍ وتبذير، كيف لا، والمريض بنظرهم صفقةً تجاريةً واستثماراً من حسن التدبير.

تهرّباً من التكلفة الّتي باتت سيفاً بتّار، وتجنّباً للنوم في حدائق المُستشفيات العامّة وانتظار الأدوار، والّلجوء للواسطات ودفع الرشاوى، وكبحاً للتفكير بالمستشفيات الخاصّة الكاوية الّتي قبل دخولها تُقرأ الأذكار، أصبح المريض طبيباً واصفاً الدواء لنفسه ولاجئاً للصيدليات غير المنكرة اختلاف أسعار العقاقير من صيدليةٍ لأخرى في الجوار.

بين صمت "المؤسسات الرسمية" أمام فوضوية الأسعار، وفرض الأطبّاء أجوراً وفقاً لحسابات اليورو والدولار، وتجاهل واقع المريض الوافد محلياً "لا من وراء البحار"، وتكلفة الأدوية المُحلّقة ليلاً نهار، بات القطاع الصحّي غيرُ صحّي، والمهنةُ بواقع الجشع والفوضى تُدار، جُرّدت من رونقها الإنساني والإيثار، أطبّاءٌ كُتبت بهم أشعارٌ، اليوم وصفهم تُجّاراً أشرار، فإن كان "فرضاً" الطبيب يُؤمّن بجهدٍ رفاهيته، فإنّ المريض لا يقوى على الادّخار، هذه دمشق الياسمين يا سادة، لا عذراً، هذه دمشق البسطار.

ترك تعليق

التعليق