هل صمد "الاقتصاد السوري" حقاً؟، ولماذا؟


يجادل الكثير من الموالين لإقناع أنفسهم والآخرين بانتصار النظام ضد الاحتجاجات التي اندلعت مطالبة برحليه. ويستشهد البعض منهم بما يوصّفه بـ "صمود الاقتصاد السوري" ونجاح النظام في إعادة الحياة إلى "الدولة السورية"، مرجحاً قرب "الحسم" وعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 2011.. فهل صمد الاقتصاد السوري حقاً؟!

أظن أنَّ علينا أن نطرح السؤال التالي: هل هناك اقتصاد في سوريا حقاً؟!

تساهم المكونات الرئيسية في تشكيل الاقتصاد السوري بحسب "مكتب الإحصاء المركزي بدمشق" على الشكل التالي: يتصدر قطاع الزراعة والغابات والثروة الحيوانية بنحو 37%، يليه قطاع الصناعة والتعدين بنسبة 16.4%، وحلت تجارة الجملة والمفرق والإصلاح في المرتبة الثالثة بنحو 13.3%. والخدمات الحكومية بنحو 12.57%، تلاها قطاع النقل والتخزين والاتصالات بمساهمة نحو 10.15%، في حين ساهم قطاع خدمات المجتمع والخدمات الشخصية بنحو 5.94%، تلاه قطاع المال والتأمين والعقارات بــ3.36%، يأتي بعده قطاع البناء والتشييد بمساهمة نسبتها 1.14%، وأخيراً بلغ إنتاج قطاع الهيئات غير الهادفة للربح 5.53 مليارات ليرة سورية.
 
يتبيّن من تركيبة الناتج المحلي اعتماده على الزراعة والخدمات، وتقتصر الصناعة السورية باستثناء تكرير النفط والبتروكيماويات على القطاع النسيجي والغذائيات، إضافة إلى الصناعات الاستخراجية في الفوسفات والحديد الخام وبعض المستخرجات الأخرى.
 
وقد كان الاقتصاد السوري في ظل حكم حزب البعث طارداً لمختلف أنواع الاستثمار الأحنبي بسبب طبيعة النظام القائم على الشمولية والحزب الواحد، إذ لم يتجاوز مجموع الاستثمارات الأجنبية 1.5 مليار دولار في 2011.

حاول بشار الأسد منذ توريثه مقاليد الحكم في سوريا تسريع عملية الانفتاح الاقتصادي والانتقال إلى اقتصاد السوق الحر. لكن الأسد الابن اصطدم بحاجزين أساسيّين تمثّل الأول في حاجة الرأسمالية لنظام ليبرالي يقوم على مبدأ تعددية الأحزاب الحاكمة، بما يضمن عدم استئثار فرد أو حزب بالقرار السياسي والاقتصادي، إضافةً للسماح للأفراد والمؤسسات بالمشاركة بالحياة الاقتصادية، وهذا يتطلب سوقاً يقوم على أساس المنافسة الكاملة بين المنتجين بحيث لا يستطيع أيُّ منتِج بمفرده التأثير على السوق، وكيف يمكن ذلك مع سيطرة المقربين من الأسد على مفاصل الاقتصاد في عموم البلاد؟!
 
في حين تمثّل الحاجز الثاني بملف الفساد، إذ تحتاج الأسواق الحرة إلى حرية تدفق المعلومات عن سوق السلع والخدمات المنتَجة داخل السوق وعن طبيعة النشاط الذي يمارسه كل من المنتجين والمستهلكين سواءً في الانتاج أو الاستهلاك، وأن تكون هذه المعلومات متوفرة لكل المشاركين في الحياة الاقتصادية، وهذا يستوجب وجود جوٍّ من الشفافية يسود الحياة الاقتصادية داخل مؤسسات القطاع العام والخاص على حد سواء.
 
ويستلزم ذلك كله نظاماً سياسياً ديمقراطياً يضمن الحرية لكل الأفراد، بما يتضمن ذلك من صحافة حرة وجهاز قضائي يمتلك الصلاحية الكاملة بمقاضاة المسؤولين والأفراد في مختلف القضايا السياسية والاقتصادية. وهذا بالطبع لا يتوازى مع مبدأ الأسد في "الحكم الأبدي" لسوريا.

وإذا كان البعض يستشهد بنجاح التجربة الصينية بقيادة الحزب الشيوعي– الواحد -بالتحوّل إلى اقتصاد السوق الحر، فإن نجاحها في الصين تطلّب زمناً طويلاً وجهوداً مضنية وتعديلات كثيرة، وكانت مهددة بالسقوط أيام الاحتجاجات التي اندلعت في ساحة تيانانمن.

لهذا أسفرت عملية التحوّل في سوريا عن نشوء رأسمالية مشوّهة اقتصرت على قيام قطاعٍ خاصٍ على مقاس آل الأسد ومخلوف والمقربين منهم، وإدخال بعض البنوك الخاصة - الصغيرة في غالبيتها –وبعض الشركات الأخرى بمشاركة الأسد وحاشيته في أرباح وإدارة هذه المؤسسات الاقتصادية.

وكان ذلك ضرورياً لإيهام المجتمع السوري ببدء عهد جديد من الاصلاحات وخروج سوريا من عزلتها الدولية، لكن الاقتصاد السوري بقيَ بدائياً ومنغلقاً على ذاته، ومحروماً من كل مقومات الانفتاح والاندماج مع المنظومة العالمية.

ولربما يجادل البعض بأن ما حصل في سوريا كان سيفضي إلى نتائجَ أكثرَ كارثية فيما لو حصل في إحدى الدول المتقدمة، وهذا صحيحٌ تماماً. لكنَّ لذلك سرٌّ، ألا وهو أن حجم الأزمة الاقتصادية في أي بلد يتوقف على حجم ذلك الاقتصاد وتداخله مع الاقتصاد العالمي، كما يتوقف على تعقّد الاقتصاد وتطوّره ونسبة الاستثمار الأجنبي من الناتج المحلي.. لكن أين الاقتصاد السوري من ذلك؟!

إن الاقتصاد السوري أيام "الأمن والأمان" لم يتعدّ البدائية بكثير، إذ لا توجد فيه أسواق ماليةٌ متطورة، ولا صناعات ثقلية، ولم يكن يوماً ما جاذباً للاستثمار. ولربما عدم وجود هذه المتطلبات هو ما حدَّ نوعاً ما من حصول النتائج الأكثر كارثية فيما لو دار الصراع السوري على أرض إحدى الدول المتقدمة، إضافة إلى تركّز القطاع الخاص في أيدي المقربين من الأسد والذين أبقوا على شركاتهم وبنوكهم رغم الخسائر التي تكبدوها في الصراع الدائر، لأنه وببساطة يتم تغذية تلك الشركات والمؤسسات من الأموال المنهوبة عبر سنوات الاستبداد الطويل بالسلطة والتحكم بنوافذ الاقتصاد، إذ قدّرت بعض الصحف الأجنبية ثروة آل الأسد ومخلوف بحوالي 200 مليار دولار.

وكل ذلك لم يكن شفيعاً، ففيما يتحدث البعض عن "صمود الاقتصاد السوري"، كشف "المكتب المركزي للإحصاء بدمشق" عن نتائج كارثية فيما يخص الاقتصاد السوري، إذ تُبيّن الإحصاءات فقدان الناتج المحلي لأكثر من نصف قيمته 58.3%، وعجزاً في الميزان التجاري بلغ 1910 مليار ليرة سورية عن عام 2016. كما كشفت الموزانة العامة للدولة التي أقرّها رأس هرم النظام مؤخراً عن عجزٍ يبلغ 42% من إجمالي الموازنة، وتبيّن الموازنة إفلاس النظام وإمكانية لجوءه للاقتراض. وفي ظل عدم قدرة البنك المركزي السوري والبنوك المحلية الأخرى على تمويل ذلك العجز، فإن النظام قد يلجأ إلى صندوق النقد الدولي طلباً للقروض.

وفيما يخص إمكانية النظام في تحصيل قروض من صندوق النقد الدولي من عدمه، لا يبدو أن شيئاً سيقف أمامه، إذ لا تزال القروض التي قُدمت لماركوس في الفيلبين وأوغستو في التشيلي موجودة في دفاتر حسابات البنك وصندوق النقد الدوليين. ولا تزال تبعات ومعاناة تلك الشعوب من أجل الوفاء بتلك الديون التي لم تخدم اقتصادات بلدانهم والتي استخدمت أساساً لقمعهم مستمرة حتى اليوم.

وأخيراً وليس آخراً.. فالاقتصاد السوري حالياً يقتصر على الحاجات الأساسية للمواطنين السوريين، وتلك الحاجات لا تتعدى المأكل والملبس بالإضافة إلى السلع العامة من كهرباء وماء ووسائل التدفئة التي لا يزال المواطن السوري محروماً من معظمها، ناهيك عن انكفاء الاستهلاك على أبسط الأمور الحياتية. وبالتالي فإن الاقتصاد السوري بحالته الراهنة هو بدائيٌّ يعتمد على الزراعة وأبسط أنواع التجارة، إضافة إلى الصناعات التي لا تتعدى الحرف اليدوية بالكثير، وهذا النوع من الاقتصادات يمكن أن يصمد لعدم حاجته ببساطة للكثير من المتطلبات، وبالتالي فإن هذا الصمود لا يُعزى للأسد ونظامه، وإنما للانسان المستمسك بالحياة والقانع بأبسط أشكال البقاء.

ترك تعليق

التعليق