هل باتت سوريا مقبرة الحلم الصيني؟!


في عام 2013 أطلقتِ الصينُ مشروع "حزامٌ واحد .. طريقٌ واحد"، وهي التسميةُ الجديدةُ لما يُعرف "بطريق الحرير" الذي كان يربط الصينَ بأوروبا، وكان الإعلان عن المشروع خلال زيارةِ الرئيس الصيني لكازاخستان، تلك الدولة العائدة من الاتحاد السوفيتي، وقد أكملت الصين طريق السكك الحديدية عبر روسيا لتنتهي في المملكة المتحدة، لكن لا تزال هناك فقرات مفقودة أهمها الطريق البريُّ عبر سوريا إلى المتوسط، ومن تركيا إلى أوروبا عبر روسيا، ولربما يكون هذا الدافع الأكبر وراء دخول "بكّين" على خط الصراع السوري.

لقد أتقنتِ الصينُ الدرسَ من الولايات المتحدة، عندما فرضتِ الأخيرة "الدولار" كعملةِ احتياطٍ وتهافتت الدول على اقتنائها، وبذلك ضمنتِ الولايات المتحدة صيانةَ الدول لعملتها من الانهيار كيلا تنهار معها احتياطياتها. وعلى نفس المنوال تحاول الصين أن يكون "طريق الحرير" سبباً في إنعاش اقتصاداتِ الدول التي يمرُّ عبرها، لتضمن لنفسها حماية هذا المشروع.

يتضمن مشروع "حزامٌ واحد .. طريقٌ واحد" طرقاً بريةً وسككَ حديد، إضافةً لممراتٍ بحريةٍ وموانئ، وقد رصدت الصين ميزانية فلكية تقارب 1 ترليون دولار، وقد تزيد على ذلك، كما أنشأت بنك التنمية الأسيوي برأسمالٍ قدره 100 مليار دولار، شاركت فيه كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا إضافة لدولٍ أخرى، كما أعلنت حكومة "بيجيين" عن تأسيس بنك طريق الحرير بـ 40 مليار دولار.

وكي تضمن الصين لنفسها الحماية التلقائية للطريق عمدت إلى دعم دول الطريق، والإنفاق على البنى التحتية في تلك البلدان، إضافة إلى منح القروض الميسّرة لإقامة مشاريعٍ هي بالأساس تخدم مصالحها التجارية. لعب العملاق الصيني على الوتر المهمّش المنسي، تلك الدول الفقيرة، الممزقة بالحروب والصراعات الحادّة، والغائرة بين تضاريس آسيا الوسطى، التي كانت مطيَّةَ الغرب والسوفييت يدخلونها ساعة يشاؤون، ويخرجون وخلفهم حضاراتٌ مدمرةٌ وشعوبٌ يائسة. وقد أنفق التنين بسخاءٍ على باكستان وكازاخستان وعلى قرغيزستان وأفغانستان، وعمد إلى تشييد المشاريع ومد الجسور، وقتها فقط استفاق العمالقة، وتضاربت المصالح وتشابكت القوى، وبات التاريخ المنسي شمس الحاضر.

كازاخستان التي لا تزال تعيش زمنَ الحقبةِ السوفييتية، وتُحكم بذاتِ القبضةِ الحديدية، هي منظقة نفوذٍ روسيةٍ بامتيازٍ وخاصةً أنها الوصيفة السوفييتية بإنتاج النفط البالغ قرابة 1.7 مليون برميل يومياً، أما باكستان فكانت أقوى حلفاء واشنطن عبر تاريخها الحديث، وهي التي نالت حصة الأسد من السخاء الصيني، 45 مليارَ دولارٍ لتطوير البنى التحتية ووصل شمال البلاد بجنوبها عبر شبكةٍ حديثةٍ من الطرق، وهذا المبلغ يقارب خُمس الناتج الوطني الباكستاني المقدّر بـ 250 مليار دولار، وكيف للطريق أن يعبر أفغانستان المملوءة بالقواعد الأمريكية، ألم يكن هذا أحد أسباب الغزو؟.. يتساءل أحدهم؟!

ميناء "جوادر" الباكستاني المطلِّ على خليج عُمان، وعبور "طريق الحرير" لإقليم "كشمير" المتنازع عليه دقَّ ناقوس الخطر في كلٍّ من نيودلهي وأبو ظبي، إذ يشكّل ميناء "جوادر" كفناً حقيقياً لميناء "جبل علي" الذي يساهم مع منطقته الحرة بـ 21% من الناتج المحلي لإمارة دبي، كما أنَّ الهند تعتبر "إقليم كشمير" مسألةً غير قابلة للمساومة.

يستكمل "الحرير" طريقه عبر إيران والعراق، ثمَّ سوريا والمتوسط، ومن سوريا أيضاً إلى تركيا ثم أوروبا، وهنا تتجاوز الصين الخطوط الحمراء. لقد سعت الولايات المتحدة لخنق الاقتصاد الإيراني وسدِّ كل المنافذ المالية عمن كانت يوماً دميةً أمريكية، وكان أحد أسباب الاحتلال الأمريكي للعراق، ودخول القوات الأمريكية إلى سوريا، هو سحب إيران إلى هناك لاستنزاف قواها وقلب القاعدة الشعبية على "الولي الفقيه"، ودفع الإيرانيين للتحالف مع الشيطان للخلاص والفكاك، وتقبّل "الفتح الأمريكي" لإيران.

الصين فتحت على نفسها أبوابَ جهنّم، فقديماً قيل: "طريق الحرير محور العالم، ومن يسيطر عليه يسيطر على العالم". تنادت الدول لصد الاجتياح الصيني للأسواق وقضم الجغرافيا العالمية، حيث من المقرر أن يمر الطريق عبر 65 دولة. ضمّت روسيا كازاخستان إلى الاتحاد الأوراسي الذي هو أقرب للموت السريريِّ منه للحياة، وكانت الولايات المتحدة أدهى حين سارعت لعقد 20 اتفاقية مع الكازاخيين بقيمة 7 مليارات دولار، كما أنها بدأت حرباً تجاريةً ضد الصادرات الصينية تجاهها، والأهم من ذلك التفاهم الأمريكي الهندي وصفقات السلاح، وأكثر التهديدات تمثّل في منح الأمريكيين للهند إمكانية الوصول إلى الأقمار الصناعية وقاعدة البيانات الضخمة التي تتيح لنيودلهي معرفة تحركات الجيش الصيني في بحر الصين الجنوبي، وانضمت الإمارات لذلك الحلف لما لها من شبكة موانئ تلف العالم بـ 78 ميناء ومحطة بحرية.
التقارب الروسي الصيني على الخارطة الجيوسياسية يخفي خلفه خشية الدب الروسي من التهام التنين الصيني له اقتصادياً، واضمحلال الدور الروسي في الشرق الأوسط ووسط آسيا، ولذا تختلق موسكو الأعذار وتضغط على الدول للمماطلة بالمشروع، ولتكتمل الحلقة، أعلنت الإمارات عن وديعة بقيمة 3 مليارات دولار للمركزي الباكستاني، وخلفتها السعودية بتأجيل مدفوعات النفط الباكستاني بقيمة 3 مليارات دولار.

تسعى الصين لكل الاحتمالات، وللطريق البرية العابرة للشرق الأوسط أهمية بالغة لتجّنب الهواجس الروسية، والالتفاف على القلاقل التي من الممكن أن تُثار في بحرها الجنوبي وتؤدي ربما إلى إغلاقه أمام حركة الملاحة البحرية، ومن غير الممكن أن تتزحزح الصين قيد أُنملة، فقد تفاقمت ديونها وباتت تشكّل 249% من ناتجها المحلي، وحوالي 60% من هذه الديون تعود للشركات الصينية التي تملك نسبةً لا بأس بها من الديون المتعثرة، ولا تزال الصين تنفق على المشروع لأنه بات يشكّل على ما يبدو ضرورةً مُلحّةً جداً.

وبالنسبة للدبِّ الروسي، فالخروج من الشرق الأوسط وأسيا الوسطى بـ"خُفّي حُنين" يعني أنه بات محاصراً في كوخه بين الثلوج. أما إيران، فأشُكُّ حتى بأنها تفكّر بمجرد فكرة الانسحاب، فالنتائج أكثرُ من كارثية بالنسبة لها. أما الولايات المتحدة فهي لم تأت إلى أفغانستان والعراق لتخرج، ولم تزرع القواعد في سوريا للسهر على راحة الشعب السوري، الولايات المتحدة جاءت لتبقى.

يحاول جميع اللاعبين على الأرض السورية ضبط إيقاع اللعبة بشقِّ الأنفس، ويتحركون بحذرٍ شديد، وبينما هم كذلك، داس الجميع على مسمار اللغم.. الجميع عالقون، كل طرف يلعب على خطأ الخصم، وليس من المستبعد القيام بجولة عن طريق الوكلاء في محاولة من الكبار إدخال بيدقٍ برتبة وزير لقلب الطاولة على الجميع.

ليست الجغرافيا السورية بتلك الأهمية المحورية لتتطاير منها شرارة حرب عالمية مدمّرة، لكن شاء القدر أن تُرمى ورقة "الجوكر" على أُمِّ رأس هذا الشعب المسكين.

ترك تعليق

التعليق