هل يمكن للولايات المتحدة ضرب الاقتصاد التركي؟


تنامت حدة النبرة العدائية للولايات المتحدة تجاه شركائها التجاريين خلال السنة الماضية بشكل كبير، في محاولة من الرئيس الأمريكي "دونالد ترمب" الالتفاف على شبح التحقيقات حول تورّط روسيا في دعمه خلال حملته الانتخابية، وقد بات واضحاً للعيان أن التصريحات النارية أصبحت أقرب إلى المواقف الشخصية للرئيس الأمريكي أكثر منها موقفاً للإدارة الأمريكية، التي تحاول الاختباء خلف ظل "ترمب" في جميع الخلافات التجارية مع دول العالم، إذ أن الادارة الأمريكية باتت في حرجٍ شديدٍ من تصريحات "ترمب"، كما أنها على يقين تامٍ من أن هذه التحركات ستؤول في النهاية إلى تشكيل تحالف تجاري دولي سيضر بمصالح الولايات المتحدة بشكل كبير على الرغم من خلافات المتحالفين.

نظرةٌ عن كَثَب

يعتبر الاقتصاد التركي من الاقتصادات العابرة من مرحلة الفقر إلى مرحلة الغنى، حيث تحتل تركيا المركز 17 عالمياً بين أكبر اقتصادات العالم بناتجٍ محلي بلغ 849 مليار دولار ونسبة نموٍ بلغت 7.4% عن عام 2017، بحسب الدراسة الصادرة عن البنك الدولي في نيسان/أبريل الماضي.
 
وتشير التوقعات إلى أن نسبة النمو في 2018 قد تبلغ 4.2% نتيجة لتزايد الديون وانخفاض العملة الوطنية وارتفاع معدل التضخم الذي بلغ في ديسمبر / كانون الأول الماضي 20.30%.

يشير تقرير صندوق النقد الدولي إلى أنَّ نمو الطبقة المتوسطة في تركيا ارتفع من 18% عام 1993 إلى 41% عام 2010، وهي علامة جيدة حيث تعتبر الطبقة الوسطى صمام أمان بالنسبة للمجتمع.

وكان المعدّل الوسطي لنمو الناتج المحلي 4.5% ما بين 1960 و 2012.

 ويُنتظر دخول الاقتصاد التركي نادي الترليون دولار في 2020، وسيصل الناتج المحلي حسب "تعادل القوة الشرائية" إلى 3.05 دولار ترليون.

تشكل الخدمات مكوناً مهماً جداً في الاقتصاد التركي وتبلغ نسبة مساهمتها في الناتج المحلي حوالي 59.6%، في حين تتوزع النسبة الباقية بين الصناعة بـ 22.5% والزراعة بـ 17.9%.

 ويعتبر المجتمع التركي من المجتمعات الفتية وتبلغ القوة العاملة فيه 31.6 مليون عامل من أصل السكان البالغين 80.810 مليون نسمة "بحسب معهد الإحصاء التركي".
 


يبلغ الاحتياطي لدى البنك المركزي 131 مليار دولار، والذي يستخدم لتمويل عمليات الاستيراد والتدخل في الأسواق في حال طرأ أي خطر على العملة الوطنية، وتتوزع الاحتياطيات على النحو التالي: 71.7 مليار دولار من العملات الأجنبية، 19.3 مليار دولار من الذهب ، 40 مليار دولار حسابات لدى البنوك الأخرى. وتظهر البيانات الواردة من البنك المركزي زيادة مقتنياته من الذهب خلال السنوات الماضية.
 

وبحسب "وزارة التجارة" فقد انخفض العجز التجاري التركي بشكل لافت في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 ليصل 55 مليار دولار، في حين كان يتجاوز 70 مليار دولار في 2017 مدفوعاً بارتفاع الصادرات (168.1) مليار دولار إلى الأسواق العالمية، وتقليل الاعتماد على الواردات (223.1) مليار دولار نتيجةً لارتفاع أسعارها لضعف العملة بالإضافة إلى انخفاض الطلب المحلي.

العلاقة التجارية بين أنقرة وواشنطن

بلغ حجم التبادل التجاري "السعلي والخدمي" بين الولايات المتحدة وتركيا في 2016 أكثر من 22.4 مليار دولار، بحسب "مكتب الممثل التجاري الأمريكي" بفائضٍ تجاريٍ لمصلحة الولايات المتحدة بـ 2.5 مليار دولار، في حين بلغ حجم التبادل السلعي فقط في الأشهر العشر الأولى من 2018 أكثر من 19 مليار دولار، إذ تصنّف تركيا في المرتبة 32 كأكبر سوق للصادرات الأمريكية.

وبلغت محصلة الاستثمارات الأمريكية المباشرة في تركيا حتى عام 2017 حوالي 4.3 مليار دولار تركّزت في قطاع التصنيع وتجارة الجملة إضافة إلى القطاع المالي، كما بلغت قيمة الخدمات المباعة من قبل الشركات الأمريكية في تركيا 5.1 مليار دولار في ذلك العام، في حين كانت الاستثمارات التركية المباشرة في الولايات المتحدة 2.0 مليار دولار، ولم تتعدَّ الخدمات المباعة من الشركات التركية أكثر من 75 مليون دولار.

التأثير الأمريكي على السوق التركي

لا شك أنَّ الولايات المتحدة تستطيع التأثير على الاقتصادات الصاعدة بشكل كبير، وتمثّل تركيا هنا هذه الحالة، ولا يزال المسؤولون الأمريكيون يتوعّدون تركيا بمزيد من العقوبات في محاولةٍ منهم لضرب التقارب التركي – الروسي في الملف السوري، وخشيةً من أن يمتد هذه التفاهم إلى ملفات أخرى كالعراق. وعلى ما يبدو فإن اللاعبين الكبار باتوا على يقين أن الطريق إلى الشرق الأوسط لا بد ويمر من أنقرة.

يتضح من بنية الاقتصاد التركي اعتماده على رؤوس الأموال الساخنة التي تبحث عن التربّح السريع والخروج، كما أن تركيا لا تفرض قيوداً منذ عام 1989 على حركة رؤوس الأموال، ويتبيّن المساهمة الكبيرة لقطاع الخدمات في الناتج الوطني، وهذا يسبب خللاً في هيكلية الاقتصاد حيث أنَّه يبقى عرضةً لهروب الرساميل عند استشعارها لأي خطرٍ سياسيٍّ كان أو اقتصادي، حتى في محيط الدولة وليس في داخلها فحسب.

حجم ديون القطاع الخاص البالغ 216 مليار دولار من مجمل الديون البالغة 448 مليار دولار يدلنا على أن النمو الاقتصادي في تركيا يتم تمويله بالديون، وبالتالي عند حدوث خللٍ ما وهجرة الأموال إلى خارج الحدود ستندفع العملة الوطنية نحو الانخفاض، هذا سيفاقم من مشكلة الشركات التي ستندفع إلى بيع المزيد من الليرة التركية للحصول على الدولار للإيفاء بديونها، ويزيد من ذلك إقدام السكان المحليين على اقتناء العملات الأجنبية الأمر الذي يشكّل ضغوطاً مضاعفة على العملة الوطنية تدفعها إلى مزيد من التدهور، مما قد ينتج عنه إفلاس بعض الشركات لتلحق بها البنوك وربما الاقتصاد التركي بكامله.
 

يكمن التأثير الذي من الممكن أن تلعبه الحكومة الأمريكية لضرب الاقتصاد التركي في تقييد وصول الشركات التركية لعملة الدولار من أجل التوسّع أولاً، ووفاءِ الديون والتزاماتها ثانياً، ويتفاقم الوضع في حال نحت الولايات المتحدة للتضييق على المركزي التركي، الأمر الذي سيؤدي إلى نتائج ربما تكون كارثية على المجتمع التركي، خاصة وأن تركيا تستورد معظم حاجتها من النفط المقوّم بالدولار الأمريكي من الخارج، الأمر الذي سيدفع الحكومة التركية لللجوء إلى السوق السوداء من أجل الحصول على الدولار الأمريكي بأسعار خيالية. هذا بدوره سيؤدّي إلى خروج العديد من الشركات والاستثمارات الموجودة خشيةَ استهدافها من قبل الإدارة الأمريكية، وعلى الرغم من قلّة الصادرات التركية نسبياً إلى أمريكا مقارنةً بحجم الصادرات الكلي، إلا أنًّ فرض تعريفاتٍ جمركيةٍ سيزيد من سوء وضع العملة التركية.

لربما يُظَنُّ أنَّ الاقتصاد التركي بات محصّناً ضد التصريحات الأمريكية بعد جملة الخسائر التي مُني بها، لكن الحقيقة أنَّ الولايات المتحدة لا تزال قادرة على إيلام الاقتصاد التركي بشكلٍ كبيرٍ جداً، والدليل الساطع هو إيران التي تغرق في الوحل بسبب العقوبات الأمريكية.

ترك تعليق

التعليق