مدارس الكرفانات المتنقلة... منارات علم في البادية السورية، غيّبتها الحرب


لا يزال الكثيرون ممن تقدم بهم العمر من أبناء البادية السورية يتذكرون المعلم "محمد جمعة البياعي"، الذي يعود إليه الفضل في تعليم أجيال عديدة من أبناء البادية السورية وبذل من أجل ذلك جهوداً مضنية لدى المسؤولين بوزارة المعارف من أجل إنشاء مدارس لأبناء البدو في المدن والبلدات الواقعة على أطراف البادية. وكان وراء فكرة تأمين السكن واللباس والطعام لطلاب هذه المدارس تشجيعاً من الدولة للبدو كي يرسلوا أبناءهم إليها. ولما احتج المسؤولون بأنه لا توجد اعتمادات مالية لمثل هذه المدارس اقترح أن يُضاف مقدار خمسة قروش سورية على كل رأس من الغنم أو الماعز أو الإبل وتُحصَّل هذه المبالغ أثناء جباية الضرائب من البدو.

 وقد وجدت هذه الفكرة استحساناً لدى السلطات المسؤولة فأُقرت وأصبحت عنصراً مادياً مساعداً في إنشاء مدارس العشائر. وهكذا تم افتتاح مدارس داخلية لأبناء البدو في كلٍ من الضميرو تدمر وأبو كمال والرقة والحسكة ودير الزور. وأُسندت مهمة إدارة مدرسة تدمر إلى المعلم جمعة البياعي، وبذلك تحقق الأمل الذي طال انتظاره. وتم هذا الإنجاز الإنساني على طريق بناء أجيال متفتحة متعلمة لها دورها في البناء الحضاري لا أجيال من الرعاة الأميين البسطاء.


 إلا أن هذه المدارس-كما يروي الباحث في شؤون البادية حسن خضير المقبل لـ"اقتصاد"- لم يُكتب لها أن تعمَّر طويلاً، ووجدت معارضة شديدة من قبل رؤساء العشائر لأنها سوف تخرِّج أناساً متفتحين يشبهون "جمعة البياعي" الذي كان يتهمهم في كل مناسبة بـ "القصور والإهمال".

 وإمعاناً في إغرائه لترك مهنة التعليم عُرض على المعلم "جمعة البياعي" دخول الكلية العسكرية ليتخرج منها ضابطاً ولكنه آثر رسالته التعليمية على أي منصب يبعده عن أبناء البدو ويبقيهم في جهلهم وأميِّتهم.

وأردف محدثنا أن زعماء العشائر البدوية استمروا في محاربة مدارس العشائر حتى كان لهم ما أرادوه وأُلغيت هذه المدارس لتنطفىء تلك المنارات التي شعَّت بنورها على البادية سنوات قليلة.

 وبعد هجر البدو لحياة الترحال إلاّ القليل منهم، وميلهم إلى الاستقرار في المدن والأرياف أقبل أبناء البدو على الدراسة في مدارس الدولة الحكومية والمدارس الخاصة، إلا أن تجربة مدارس العشائر كانت نموذجية بكل معنى الكلمة في المجتمعات البدوية التي تعتمد على الترحال وعدم الاستقرار، والتي يعيش أبناؤها في أمية تامة إذ نادراً ما كنت تجد بين أبناء العشيرة – في الماضي – من يقرأ رسالة أو يكتبها، وحتى رؤساء العشائر الذين كانوا يحاربون فكرة المدارس-بحسب المقبل- كانوا أميِّين رغم أن بعضهم كانوا نواباً في البرلمان السوري.

وكان رئيس العشيرة وخاصة في العشائر الكبيرة يستأجر كاتباً يُسمى الخطيب يدفع له أجراً سنوياً، وكان يملي عليه ما يريد لمخاطبة زعماء العشائر الأخرى أو السلطات.

وفي السنوات التي سبقت الحرب تم التنبه لأهمية التعليم في مجتمع البادية السورية وأجرت وزارة التربية التابعة للنظام بالتنسيق مع الجهات المعنية مسوحات ودراسات ميدانية للتعرف على الوضع التعليمي في البادية والمناطق شمل عدد الأطفال الأميِّين فيها وعدد مدارسها، وتم وضع الحلول المناسبة لتوفير المدارس في البادية بدءاً من العام 1980 – 1981. وبلغ عدد المدارس الثابتة في أماكن التجمعات السكانية المستقرة 344 مدرسة. إلى جانب المدارس المتنقلة، وهي عبارة عن (كرفانات) أي غرف خشبية على عجلات تجري بواسطة جرار زراعي مزوَّد بمرافق خدمات تتسع لأربعين تلميذاً مع ملحق لسكن المعلم.

كما تم افتتاح مدرسة ثابتة لكل مجتمع سكني في البادية يحتوي على 10 أطفال في سن التعليم وفق معايير الخريطة المدرسية المعتمدة من وزارة التربية. وبذلك تم استيعاب كافة الأطفال الذين هم في سن التعليم.

المعلم "حمزة السوعان المحيميد" عمل بعد تخرجه من جامعة دمشق عام 2003 لسبع سنوات في تعليم أبناء البادية من خلال تجربة الكرفانات المتنقلة، وروى لـ"اقتصاد" أنه عُيّن لأول مرة في كرفانة بمنطقة صباغة شرقية في منطقة جزيرة البوحميد بريف دير الزور، وكان –كما يقول- المعلم الوحيد فيها قبل أن تنضم إليه زوجته كأول معلمة في بادية أبو خشب، وأردف أن الكرفانة التي كان يرافقها في حلها وترحالها كانت ذات دواليب تُجر بواسطة جرار زراعي، وتضم صفين مجمّعين يضمان طلاباً من مختلف المراحل الدراسية، ولكن في الفترة التي درّس فيها لم يكن عدد الطلاب -كما يؤكد- يتجاوزون الخمس، كل طالب منهم في مرحلة وكان -كما يقول- يركز على تدريس اللغة العربية ومبادئ الجمع (الرياضيات) مستبعداً المواد الأخرى كالعلوم والتاريخ والجغرافيا.

ونوّه محدثنا إلى أن أهالي بلدة "صباغة شرقية" كانوا يقيمون فيها شتاء ولكن في الربيع ينتقلون إلى مكان آخر، وطلبوا منه-كما يقول- الذهاب معهم لتدريس أطفالهم والاستقرار معهم، لأن المواصلات ضعيفة، وفي صباح اليوم التالي أتوا بجرار زراعي وجروا به الكرفانة، وأضاف أنه استمر في تعليم أطفالهم لشهور طويلة لم يتمكن خلالها من النزول إلى مدينة دير الزور إلا مرة واحدة، وكان –كما يقول- يدرّس كل طالب منهاجه على حدى، حيث كان لديه طالب في الصف الأول وآخر في الثالث وطالبان في الصف الخامس.

 وكشف محدثنا أنه في بعض الأحيان كان يدرس طالباً واحداً طوال الموسم الدراسي في الكرفانة، وكانت فترة التدريس-حسب قوله –تمتد من الساعة الثامنة صباحاً حتى الواحدة ظهراً، مضيفاً أنه كان يجهز سجلات الطلاب وجدول الحضور والغياب ودفتر العلامات بنفسه وبطريقة نظامية تفيد الطالب إذا انتقل من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادية.
 
وبدورها أشارت المعلمة "حنان السويدان" التي كانت أول معلمة في تاريخ بادية "أبو خشب" إلى أن مدرسي الكرفانات المتنقلة كانوا يستفيدون من هذه التجربة لأن السنة تعتبر سنتين، أي عبارة عن قدم وظيفي وليس قدم في الراتب أو لأجل التقاعد وكشفت محدثتنا أنها أقامت في مدرسة أبو خشب المتنقلة خمس سنوات وكانت من أصعب مراحل عملها في التعليم، لافتة إلى أن طلاب القرى والأرياف في دير الزور يمتلكون ذهنية نظيفة ويستوعبون بسرعة كبيرة، ولكن المشكلة-حسب قولها- لدى المعلم الذي يكون شبه مدمر نفسياً بسبب ظروف حياته الجديدة في هذه المناطق ولا يعطي بالشكل المطلوب كما في المدارس النظامية.

ترك تعليق

التعليق