عقارات دمشق.. بين تفاصيل الحرب، وإيران




في الوقت الذي تراجع فيه الناتج المحلّي لسوق العقارات السورية من 64 مليار ليرة سورية في عام 2011 إلى أقل من 17 مليار ليرة في عام 2018 سجّل القطّاع في العاصمة صعوداً قوياً منذ بدء الحرب لعدّة عوامل أهمّها التمتّع بالأمان النسبي مُقارنةً ببقيّة المناطق واندفاع النازحين إليها بكثافة هرباً من عمليات القصف الجنونية التي قامت بها آلات النظام العسكرية وحلفائه حتّى بلغ عدد ساكنيها ثمانية مليون نسمة بعد أن كانت تحوي أربعة ملايين نسمة فقط.

ظروف الحرب استنزفت مُدخّرات السوريين لا سيما النازحين منهم، وبعض الميسورين ماديّاً أقبلوا على شراء العقارات في العاصمة بمراحل مُتقدّمة جداً مُنتهزين رغبة الكثير من العائلات بالهجرة لخارج البلاد، لكن في الجانب الآخر وفي ظل انكفاء "المؤسسات الرسمية" عن الدخول بهذا المضمار بشكلٍ حقيقي يطفو على سطح المشهد أشخاص مُنتفعون استثمروا الحرب وأصبحوا من أهم رجال الأعمال المُسيطرين على السوق العقاري والمُحتكرين لكافّة مفاصله مالكين مساحاتٍ واسعة وفارضين أنفسهم على واقع المُضاربات حتى بلغت الأسعار منطق الجنون، ففي منطقة السبع بحرات يُعرض منزل بسعر 70 مليون ليرة سورية، وقبل عام كانت تُعرض المنازل هناك بذات المساحة بـ 49 مليون، وفي ركن الدين منزل معروض للبيع بسعر 65 مليون ليرة وكان سعره في العام الماضي 59 مليون، أمّا في منطقة مشروع دمر منزل بسعر 120 مليون بينما قبل عام كان 100 مليون ليرة، وفي حي الصناعة منزل بسعر 60 مليون ليرة بعد أن كان سعر العام الماضي 52 مليون، وفي منطقة المزة فيلات 120 مليون ليرة في حين كان العام الماضي بـ 94 مليون ليرة.

لكن حركة البيع والشراء دخلت في حالة جمود رهيب نتيجة تذبذب أسعار الصرف بالدرجة الأولى وافتقار الكثير من السوريين للمال اللازم للشراء والتملّك، فتحوّلت أكثر العقارات للاستثمار في سوق الإيجار الّذي نشط بدايةً في عام 2012 وكان الطلب عليه أضعافاً مُضاعفةً من حجم المعروض وسوق البيع والشراء.

في 2013 تحوّلت 80% من العقارات للإيجار فضلاً عن البيع، وكان أصحاب العقارات المؤجّرة و"ما زالوا" بعد انقضاء المدّة الزمنيّة وانتهاء عقد إيجار يفرضون شروطاً تعجيزية كـ "الدفع مُقدّماً لثلاثة شهور، وفرض مبلغ تأمين، ورفع قيمة الإيجار بين 20% و 35%، أو إخلاء المنزل" مُستغلّين بذلك حاجة العائلات النازحة في تأمين سكنٍ بشكلٍ سريع وهذا ما يضع المستأجر أمام احتمال جدّي في نزوحٍ جديدٍ قد يتعرّض له فيقوم مَضطرّاً بالانصياع لمالك المنزل.

وفي "المالكي و المهاجرين" يبلغ إيجار المنزل حوالي نصف مليون ليرة، وتكون الأسعار أدنى في منطقة الميدان حيث يصل بدل الإيجار الشهري للشقة إلى ما بين ١٥٠ إلى ٢٠٠ ألف ليرة، وفي مناطق المخالفات ما بين ٧٥ إلى ١٠٠ ألف ليرة بعد أن كان بـ 5 آلاف ليرة سورية فقط، علماً أنّ الإيجار كان مُحجّماً نوعاً ما قبل العام 2011 بسبب سعي الناس لامتلاك منزلٍ حتّى لو كان بعيداً عن مراكز المدن.

بحسب دراسة "جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية (TUFS) عام 2016 المُنفّذة من قبل "مركز الرأي السوري للاستطلاع والدراسات" وهو مركز مُقرّب لـ "نظام الأسد" فإنّ الحرب دمّرت أكثر من 60% من البنية التحتية، ووصلت نسبة المواطنين تحت خط الفقر الأدنى إلى 87،4% وفقاً لمعيار "البنك الدولي"، كما انخفضت نسبة العاملين في القطّاعات الخدمية بنسبة 83%.

في ظاهرة غير اعتيادية انتقد مؤخّراً أعضاء "مجلس شعب النظام" "حكومة نظام الأسد" مُنوّهين أنّ الشباب لا يستطيعون تأمين سكن لهم "ولا حتى في الأحلام" بسبب تكاليف شراء الأراضي والبناء الباهظة، وقالوا إنّهم يفتقدون لرؤية حكومية واضحة في تأمين المساكن خاصّة وأنّها لا تُعيد النظر بتاتاً في آليات عمل المؤسسات الرسمية المعنية.

وأكّد أعضاء المجلس أنّ ملايين السوريين يعيشون بلا سقفٍ يُؤويهم، والأسعار المطروحة لا تُمكّن ذوي الدخل المحدود من امتلاك منزل، مُتّهمين "حكومة نظام الأسد" بتجاهل السكن كـ حاجة أساسية في سلم أولويات الإنسان.

بدورها المؤسسات الرسمية لدى "النظام" تُحاول كالعادة الهروب للأمام عبر التبرير بارتفاع مُعدّل نمو السكان بما لا يتناسب مع النمو الاقتصادي، وإطلاق الوعود وإعلان خطط الترميم الحديثة وتشكيل اللجان والتي كان آخرها "لجنة الأزمة" واعدةً بالعمل تحت شعار "منزلٍ لكلّ أسرة" تنطلق من خمسة محاور "إعادة البيانات، التخطيط الإقليمي، تأمين الأراضي، التمويل، التنفيذ".

 لكن مراقبين في ذات الوسط علّقوا على ذلك أنّها عمليات تخدير موضعي لا أكثر، فـ "حكومة نظام الأسد" بالرغم من إعلاناتها المُتكرّرة عن شروط القرض العقاري "وضع إشارة رهن على العقار وتأمين كفيلين" عاجزةً عن تقديم مبلغ القرض مليون و300 ألف ليرة سورية، وغير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها القديمة المُتعلّقة بالجمعيات السكنية والسكن الشبابي، أمّا عن ارتفاع مُعدّل السكّان فقالوا ماذا كانت تعمل "الحكومة حينها"؟

تبلغ أسعار بعض مواد البناء في العاصمة، طن الحديد 360 ألف ليرة، طن الاسمنت 60 ألف، بلوك سعر القطعة 220 وأجرة تركيبها 125 ليرة، سيارة رمل أو بحص 10 أمتار 110 آلاف، ربطة الكابل الكهربائي 10 آلاف، متر السيراميك المحلّي 3000 ليرة، متر السيراميك المستورد بين 8 ألف و 15 ألف ليرة، متر الرخام المحلّي 20 ألف ليرة، متر الرخام المستورد 50 ألف ليرة، باب خشبي بين 150 ألف و 250 ألف ليرة، باب ألمنيوم بين 50 ألف و75 ألف ليرة، يُضاف إليها مبالغ كبيرة جداً للشحن والنقل والأيدي العاملة، ويُقدّر عاملون في مجال الإنشاءات تكلفة ترميم بسيط لمنزل مساحته ١٠٠ متر مُربّع تصل لأكثر من مليونين ونصف المليون ليرة.

آخر إحصاء رسمي أعلنت عنه مؤسسات "نظام الأسد" قالت فيه إنّ نسبة السكن العشوائي في البلاد تجاوز٥٠%، ويعيش سكان دمشق في منازل عشوائية ومناطق مخالفات بنسبة 45%، ومصادر صحفية مُؤيّدة لـ "النظام" قالت إنّ عدد الوحدات السكنية المخالفة التي بُنيت خلال السنوات الثمانية الماضية في سوريا بلغت حوالي المليون جميعها بُنيت على عجالةٍ وتفتقد لمعايير السلامة والأمان.

"البنك الدولي" قدّر عدد المساكن المُدمّرة بنحو 1،7 مليون منزل تُقدّر قيمتها 60 مليار دولار أمريكي، بينما الشبكة السورية لحقوق الإنسان "snhr" تُؤكّد أنّ قُرابة 3 مليون منزل مُدمّر أو شبه مُدمّر في سوريا، في حين تُبيّن "الأسكوا" عدد المنازل المدمرة بـ 2،5 مليون منزل تتصدرها محافظة حلب بـ 424 ألف منزل، يليها محافظة ريف دمشق 303 ألف منزل، ثُمّ محافظة حمص 200 ألف منزل ، ثُمّ محافظة درعا 105 آلاف منزل، تليها محافظة دير الزور 82 ألف منزل، محافظة حماه 78 ألف منزل، محافظة الرقة 59 ألف منزل، محافظة اللاذقية 57 ألف منزل، محافظة الحسكة 56 ألف منزل، محافظة دمشق 37 ألف منزل، محافظة طرطوس 12 ألف منزل، محافظة السويداء 5 آلاف منزل، محافظة القنيطرة 900 منزل مُدمّر.

فيما يتعلّق بمطامع إيران التوسعية داخل العاصمة وأطرافها فقد أكّدت العديد من المصادر الصحفية أنّ السفارة الإيرانية في دمشق أصبحت مركزاً هاماً لتجارة العقارات وتستمر بعمليات الشراء مُستغلةً الضائقة المادّية التي يُعاني منها السوريون.

 وقالت صحيفة الغارديان البريطانية في العام 2015 أنّ شراء إيران للعقارات يتوسع يوماً بعد الآخر وبتواطؤٍ صريحٍ من النظام السوري الّذي يُقدّم التسهيلات الكبيرة، وذات الأمر نقلته صحيفة النهار اللبنانية، وسبقتها بذلك "الهيئة السورية للإعلام" مُؤكّدةً أنّ رجل الأعمال "عبد الله نظام" أحد أهم أزلام إيران في سوريا يُدير أهم أنشطة شراء العقارات لصالحها، وفي عام 2016 كشف "مركز الشرق للدراسات والإعلام في لندن" عن تحفيز حكومة إيران لمُستثمريها في مجال العقارات بالتوجّه إلى دمشق، مُنبّهاً ببدء شراء إيران للعقارات الدمشقية بكثافة منذ مطلع العام 2012، ذات الأمر أكّده موقع "بيك نت" الإيراني في العام 2017 مُعلناً أنّ حكومة إيران عقدت اجتماعات كثيفة مع تجّار في مجال القطّاع العقاري طالبةً منهم الاستثمار في دمشق، وبحسب "صحيفة جيرون الإلكترونية" في ذات العام فإنّ عدد من البنوك المُرتبطة بـ "الحرس الثوري الإيراني" مثل "بنك أنصار الإيراني ومؤسسة مهر المالية" تمنح الراغبين في شراء العقارات الدمشقية قروضاً كبيرةً ومُيسّرةً.

وتستخدم إيران أدوات عديدة للنجاح في التملّك أهمّها تجنيد شبكات التجّار وأصحاب المكاتب العقارية بمساعدة عائلات دمشقية معروفة تتشارك معها بالانتماء الطائفي وتشتري الأبنية الجاهزة والمحلّات التجارية والأراضي والمنشآت السياحية. ونشطت عمليات الشراء بالآونة الأخيرة في دمشق القديمة، ومن العقارات المعروفة التي استحوذت عليها فنادق "كالدة، أسيا، دمشق الدولي، البتراء، فينيسيا، الإيوان، وأسهم في السميراميس".

كانت دمشق قد احتلت في عام 2009 المرتبة الثامنة عالمياً بين أكثر المدن غلاءً بأسعار العقارات، حيث بلغ سعر المتر الواحد حينها حوالي 65 ألف ليرة بسعر صرف للدولار الواحد 47 ليرة، وكان العديد من ذوي الدخل المحدود يقضون أعواماً طويلة في العمل والتقشف ليتمكّنوا من شراءِ منزلٍ في العشوائيات الّتي كان يُقدّر سعر المتر الواحد فيها بين 20 و 30 ألف ليرة سورية.


ترك تعليق

التعليق