مُنغّصات عيد الحب في سوريا


تعج الأسواق السورية بمختلف مناطقها، بالهدايا المُختلفة المُتنوعة، وتكتسي جميعها زاهيةً بالّلون الأحمر، وينتشر في أرصفة الشوارع العشرات من بائعي الورود والهدايا الرمزية المُعبّرة عن يوم عيد الحب الذي يُصادف الرابع عشر من شهر شباط في كلّ عامٍ بدءاً بـ "الدببة" الحمراء والورود والشموع وانتهاءً بالإكسسوارات الذهبية التقليدية.

خلافاً لما يُعرف بأنّ ليوم عيد الحب أبعاداً شاعريةً مُميّزةً واستثنائيةً فهناك من يقول ويُؤكّد أنّ البعد التجاري لعيد الحب في سوريا طغى جداً على بُعده المُرهف ودليل ذلك الارتفاع الكبير لأسعار وتكلفة كُل المُستلزمات المُتعلقة بطقوس هذا العيد منذ عام 2012 وما بعد. لكن يبقى مناسبةً جميلةً يراها كُل فردٍ حسب منظوره وبما يُلبّي أهدافه إن كانت معنويةً أو مادّية.

من طقوس عيد الحب أن ينتقي العاشق "ة" هديّةً قيّمةً يُقدمها للمعشوق "ة" تعبيراً منه عن الحب والاهتمام، إلّا أنّ ارتفاع أسعار الهدايا أدى إلى اقتصار هدايا الكثير من العشاق "خصوصاً محدودي الدخل" على كواعب الشوكولا المُزيّنة بشكلٍ جميلٍ أو صناديق الهدايا الصغيرة المُزخرفة وأكياسها، ولا يقلّ سعرها في أغلب الأحيان عن 4 دولارات أمريكية في الوقت الذي لا يتجاوز فيه راتب الموظّف في القطّاع الحكومي أو العامل في القطاع الخاص 70 دولاراً  كُلّ شهر.

في أسواق العاصمة دمشق يبلغ سعر الوردة الواحدة بين 1000 و1500 ليرة سورية، وسعر الشمعة بين 400 و 1000 ليرة، وقالب الكاتو الوسط بزينةٍ متواضعةٍ يُسعّر بأكثر من 5000 ليرة، وزجاجة العطورات التقليدية بـ 7000 ليرة، وسعر علبة الماكياجات الصغيرة 15 ألف ليرة، وتبدأ أسعار الأقلام والساعات بـ 2500 ليرة، وأسعار صناديق الهدايا الفارهة تبدأ بـ 3000 ليرة.

 ومّما لاحظه "اقتصاد" في أسواق "حي المجتهد" هديّةً مُكوّنةً من صندوقٍ خشبي فيه كوب ملوّن بالأحمر ووردة حمراء وضوءٌ صغير مُسعّرةً بـ 18 ألف ليرة سورية، أمّا "الدبدوب أو قلب الحب" الأحمر فتبدأ أسعاره بـ 20 ألف ليرة وما فوق، وفقاً لحجمه ونوع فرائه وبلد المنشأ.

"روان"، 22 عاماً، تعمل في ورشة شعبية لخياطة الألبسة، قالت لـ "اقتصاد" إنّ تسريح خطيبها من الخدمة الإلزامية في صفوف "جيش نظام الأسد" أو بأقلّ تقديرٍ عودته سالماً من حربٍ فُرضت عليه هي الهديّة الوحيدة التي تتمناها في عيد الحب منذ خمسة أعوام.

وأضافت أنّها في كُلّ عامٍ تُحاول ادّخار مبلغ من المال لتقتني فيه هديّةً مناسبةً لخطيبها، لكن جشع تُجّار الأزمات واستثمارهم لكافّة المناسبات في ظل تغاضي المؤسسات الرسمية عنهم، لا يتيح لها الفرح ولو ليومٍ واحدٍ فقط.

 وأشارت إلى أنّ فئةً من الناس كانت سابقاً تحتفل في مطاعم دمشق القديمة ذات الطابع الدمشقي المُميّز وارتفاع الأسعار فيها الآن يحول دون ذلك، علماً أنّها تُشاهد في الضفة الأُخرى طبقةً من الناس يحتفلون في أرقى المطاعم التي تُكلّف فيها سهرة عيد الحب حوالي 200 دولار أمريكي، دون المُستلزمات الأُخرى، وتُنوّه أنّهم الطبقة المُقرّبة من نظام الحكم والمُنتفعة من ظروف الحرب وأكثرهم من يبيعون الهدايا في المناسبات ويمتصون جيوب المُستهلكين.

لعيد الحب بحر واسع من المشاعر بصرف النظر عن طريقة أو وسائل الاحتفاء به، فالشاب "طلال"، من قاطني مُحافظة السويداء في الجنوب السوري، يحتفل منذ خمسة أعوام مع زوجته في طقسٍ خاصٍ بهما، يعدّانه بنفسهما، ويتقاسمان صنعه، زوجته تُحضّر "البوشار" وهو يُحضّر "المتة" ويبدأ احتفالهما بتصفّح ألبوم صور الذكريات، بحسب ما قاله لـ "اقتصاد".

وأضاف "طلال" أنّ أسعار مُستلزمات عيد الحب في أسواق محافظة السويداء لا تختلف كثيراً عن أسواق العاصمة ولا تنخفض عنها سوى بـ 20% فقط، الأمر الذي دفع الكثير من العاشقين للعزوف عن شراء الهدايا واستبدالها بأمورٍ رمزيةٍ أخرى لا تُكلف مادّياً.

وفي محافظتي اللاذقية وطرطوس بالساحل السوري تنخفض أسعار مُستلزمات عيد الحب عن أسواق العاصمة دمشق بحوالي 40% إلّا أنّ المبيعات معدومةً بشكلٍ مُطلق بحسب ما أكّدته لـ "اقتصاد" السيدة "حسناء" القاطنة في منطقة الصفصافة بمحافظة طرطوس.
   
وأضافت السيّدة: "كيف لمدينةٍ أن تحتفل بالمناسبات وقد أصبحت كـ (كوكب زُمرّدة)، يُخيّم الفقر عليها، وتكتسي شوارعها بصور الآلاف من القتلى الشباب، وأكثر نسائها لا يخلعون اللباس الأسود، الكثيرات مفجوعاتٍ إمّا بأزواجهنّ أو أبنائهنّ، فأغلبية شباب طرطوس مُلتحقين بشكلٍ إلزامي في (جيش نظام الأسد) أو مُتطوعين في صفوف الميليشيات المُساندة له، ويوجد عدد كبير من الشباب الهاربين من الحرب يعيشون في الجبال والقرى النائية لا يتجولون إطلاقاً ولا يلتقون بذويّهم".

 ومحافظة اللاذقية تُشابه واقع مُحافظة طرطوس إلّا أنّ أكثر شبابها لاجئون في أوروبا والنساء فيها تنتظرن لمّ شملهن ليحتفلن بيوم عيد الحب.

أما في مناطق محافظة حلب الخاضعة لسيطرة "نظام الأسد" تقلّ الأسعار فيها بحدود 50% عن أسعار أسواق العاصمة وتنعدم عمليات الشراء لدى ساكنيها بشكلٍ رهيب لأسبابٍ عديدة أهمّها تفضيل شراء المواد الغذائية الأساسية التي غالباً ما تُفقد من الأسواق وتتأخر في الوصول إلى المدينة، بحسب الشابّة "نسرين"، 30 عاماً، وتقطن في حي السكري.
   
وتُضيف "نسرين" أنّها حزينةٌ جدّاً لعدم قدرة الناس على الاحتفاء بعيد الحب، وتُشير أنّها في الوقت الذي يجب أن تكون فيه سعيدةً لزيارة هذه المناسبة، تكون أكثر حزناً واستياءً بسبب اعتقال "قوات نظام الأسد" خطيبها في يوم عيد الحب بالعام 2012 ليُصبح رقماً في سجلّات المفقودين حتى يومنا هذا.

وفي المناطق الواقعة تحت سيطرة ميليشيا "قسد" وأجزاء كبيرة من مدن "الحسكة والقامشلي"، شهدت حركة السوق منذ أسبوع حالةً من النشاط غير المُعتاد عزاها الشاب "سيبان"، 28 عاماً، في تصريح لـ "اقتصاد"، إلى توفّر سوق العمل نتيجة ثراء المنطقة بالمنتجات المحلية خاصّةً "الزراعة والنفط"، مما ساهم في رفع سقف عمليّات البيع والشراء بكافّة المناسبات، ووفّر مُتنفّساً بسيطاً يُؤدّي للفرح نوعاً ما بعكس السنوات القليلة الماضية.
   
وبحسب "سيبان" فإنّ الأسعار في تلك المناطق لا تختلف إطلاقاً عن الأسعار المطروحة في أسواق العاصمة دمشق لكن في السنوات السابقة كانت تُشكّل نفقاتٍ إضافية لا يُمكن تأمينها وصرفها في الشمال السوري.

في 2010، كان مُتوسّط دخل الأسرة السورية شهرياً، 500 دولار أمريكي، وكان سعر الوردة في يوم عيد الحب 50 ليرة سورية أي دولاراً أمريكياً واحداً، وفقاً لسعر الصرف آنذاك، أمّا اليوم فيتجاوز سعر صرف الدولار الأمريكي الواحد 500 ليرة سورية يُرافقه شللٌ تام في سوق العمل وتدنٍّ كبير في رواتب الموظّفين بالدوائر الرسمية الذين يتقاضون أقل من 100 دولار أمريكي شهرياً، هذا في الوقت الذي تحتاج فيه الأسرة السورية الواحدة لأكثر من 200 دولار فقط للطعام بدون المُستلزمات الأخرى كـ "إيجار المنزل والتدفئة والغاز والألبسة والصحة ومصاريف المدرسة"، وفقاً لمواقع محلّية مُؤيّدة لـ "نظام الأسد".

وبالعودة إلى أسواق العاصمة فقد أكّد بائعو الهدايا هناك أنّ حركة البيع قليلةً جداً وتتدنّى عاماً بعد الآخر، كما برروا بلوغ الأسعار حدّاً جنونياً لاستيراد مُعظم المستلزمات من الخارج، وارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي أمام الليرة السورية. وبالنسبة للتجّار في الأسواق، فإنّ عيد الحب موسمٌ مُماثلٌ للمناسبات الأخرى كـ أعياد "الفطر والأضحى والميلاد والأم والمعلم"، وأكثر المبيعات تتجلى بالبطاقات الكرتونية المُزخرفة والأزرار الذهبية التقليدية كون سعر القطعة الواحدة منها لا تتجاوز 1000 ليرة سورية.

وعن ارتباط الّلون الأحمر بعيد الحب قال الشاب "جوليان"، "طالب علم اجتماع في جامعة دمشق"، في تصريح لـ "اقتصاد"، إنّ ذلك بسبب إيجابية الّلون وإثارته وجاذبيّته وغناه بالطاقة ولامتلاكه ارتدادات على خلايا جسم الإنسان وبسبب متابعة العين له بلا شعورٍ. "لكن وفي ظلّ ظروف البلد لا يُمكن أن أتذكر حين أرى اللون الأحمر سوى الدماء المنتشرة في أقبية الفروع الأمنية ومئات آلاف السوريين الذين تعرّضوا للحصار وقتلوا بآلات نظام الأسد العسكرية بغير ذنب".

بين مُؤيّدٍ ومُعارضٍ وغير مبالٍ للفكرة، فرض عيد الحب نفسه على المجتمع السوري بمختلف أطيافه، وبالرغم من قيمته العليا التي يراها الكثيرون إلّا أنّه يحلُّ ضيفاً ثقيلاً على المواطن السوري المُرهق من انعدام المواد الأساسية في الأسواق وارتفاع أسعار ما يتوفّر منها وفقدانٍ الفرص في سوق العمل.


ترك تعليق

التعليق