حرب الغاز.. لماذا يجب أن يستمر الصراع في سوريا؟!


يعتبر البحر المتوسط واحداً من أعظم المنافذ التي عرفها الانسان، لهدوء سطحه وكثرة الجزر فيه، كما ولقرب سواحله من بعضها أهمية كبرى في الملاحة البحرية عندما كان الناس لا يعرفون البوصلة ويخافون الخوض في غمار البحار المفتوحة. ويشكل البحر المتوسط، عند المؤرخين، المكان الذي بدأت فيه حضارات الأمم. وتتجدد أهمية المتوسط اليوم، مع اكتشافات الطاقة الهائلة التي كانت سبباً للدمار الذي لحق بالمجتمعات القاطنة بالقرب منه، والتي ربما ستكون في ذات الوقت السبب الضروري لإيجاد الحلول وتهدئة الأمور ولكن بعد فرض شروط معينة.

منذ ثمانينات القرن الماضي والولايات المتحدة تطالب أوروبا بتخفيف الاعتماد على النفط الروسي الذي يشكّل حوالي 40% من واردات الغاز الطبيعي لأوروبا التي تستورد 57% من حاجتها من الغاز. وقد استطاعت روسيا إدارة لعبة الضغط السياسي من خلال سلاح الطاقة حيث تملك أكبر احتياطي غاز في العالم بحوالي 1,187 "ترليون قدم مكعب"، كما تملك ثامن أكبر احتياطي من النفط بـ 80 مليار برميل.


وتعود قصة الاكتشافات إلى نهاية الألفية الثانية، حين أعلنت "British Gas" عن كشفها لحقل غاز قبالة سواحل غزة باحتياطي 1.4 "ترليون قدم مكعب"، وانسحبت منه فيما بعد، بسبب مضايقات الاحتلال الاسرائيلي. شكّل ذلك الكشف شرارة البداية في حوض المتوسط، حيث أعلنت "shell" في 2004 عن اكتشافات هائلة ستغير من الخريطة الاقتصادية للشرق الأوسط، إلا أنها انسحبت بشكل مفاجئ في 2010 بحجة عمق المياه رغم امتلاكها لتقنيات الحفر في الأعماق السحيقة.

في ذات العام بدأت تتوسع رقعة الاكتشافات حين قامت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية بالبحث في المنطقة، وأكدت أن المثلث البحري بين فلسطين وسوريا وقبرص قد يحوي على 3.45 "ترليون متر مكعب" من الغاز الطبيعي، وأن سوريا تتمتع بالحصة الأكبر من هذا الاحتياطي، مع إمكانية وجود المزيد من الاحتياطيات.

توالت الاكتشافات في حوض المتوسط، واللافت في الأمر أنَّه وبعد اكتشاف مصر لحقل "ظُهر" باحتياطي 850 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، جاء التدخل العسكري الروسي في سوريا بعد شهر واحد من ذلك التاريخ.


لقد أدركت موسكو أن أنظار الأوروبيين باتت على الشرق الأوسط أكثر من قبل، وهي مدركة تماماً أنّ أوروبا تسعى بشتى الوسائل للخلاص من الاعتماد الكبير على مصادر الطاقة الروسية، إلا أنّ المعادلة تحمل في طرفها الثاني رقماً صعباً يفرض على روسيا الحذر في التعامل، ألا وهي إسرائيل التي لا يمكن اللعب بالنار معها.

ومع استخراج أول قدم مكعب من الغاز أعيدت كتابة تاريخ إسرائيل، وتغيّر وجه الشرق الأوسط برمته. باتت إسرائيل ترى العالم من منظور مختلف وتسعى لربط كامل الاحتياطيات وتصديرها خارج الحدود. ويؤكد الكثير من الخبراء أنّ غالبية حقول البحر المتوسط تقع إما في المياه الإقليمية المصرية أو اللبنانية ولا حقَّ للاحتلال الإسرائيلي فيها، ولربما يفسّر هذا الأمر ذلك الانقلاب العسكري غير المفهوم على الشرعية في مصر، وذاك الفراغ السياسي الذي ضلَّ معه الرئيس اللبناني، الطريق إلى قصر بعبدا.

تزايدت أهمية الجغرافيا السورية لما تملكه، وما يمكن أن تملكه، من احتياطيات النفط والغاز، ولمرور الأنابيب عبر أراضيها، ناهيك عن أن المشروع لا يصبح ذا جدوى بالنسبة للقارة العجوز إلا بتجميع الاحتياطيات وتصديرها، لذا ضغطت إسرائيل على مصر لربط حقولها بخط الغاز العربي الذي يوصل الغاز المصري إلى مدينة حمص السورية عبر الأردن، ولاستكمال مسيرة الطاقة لا بدَّ من ربط الأنبوب بخط ناب التركي الذي ينقل حوالي 5 مليار متر مكعب من الغاز الأذري إلى أوروبا، الذي دفعت الولايات المتحدة بثقلها لإنشائه.

فازت روسيا بحقوق التنقيب عن النفط والغاز في البر والبحر السوريين، واستكملت ذلك بإبقاء قواتها لـ 49 عاماً في قاعدة طرطوس البحرية، وذكرت صحيفة "Globs" الإسرائيلية أن "غاز بروم" الروسية لا تنوي فقط المشاركة في استثمار حقول الغاز الإسرائيلية، بل وحتى المشاركة في نقله. وتعهّدت "غاز بروم" بشراء 2.8 ميار متر مكعب من الغاز المستخرج سنوياً.

هذا السيناريو يتطلب مزيداً ومزيجاً من صنوف العذاب لكسر إرادة الشعب السوري وإرغامه على التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، والقبول بتوجيهات الدب الروسي أيضاً. إطالة الصراع تخدم روسيا في تأخير وصول الإمدادات لأكبر مستورد للغاز في العالم - أوروبا (480 مليار متر مكعب سنوياً، 17% من مجمل الطلب العالمي على الغاز). وهذا يفرض على إسرائيل إقصاء ميليشيا حزب الله ومموليه الإيرانيين.


والعلاقة متبادلة بين روسيا وإسرائيل بخصوص إيران، فكلاهما يسعى لطرد الإيرانيين من سوريا. ففي حين تقدم إسرائيل خدمة القصف المتواصل على القواعد الإيرانية، هي تحتاج لروسيا التي تملك نفوذاً على بعض قيادات جيش النظام التي بدورها تشن الحرب البرية. الحقيقة أنّ الإسرائيلين لا يجدون حرجاً في تأخّر وصول إمدادات الغاز، فالصراع بين الروس والإيرانيين من شأنه تدمير معظم القوات على الأرض بما يضمن أمن إسرائيل ويضعف القوة التفاوضية للدب الروسي، إلا أنّ مرور الأنابيب عبر سوريا دفع إسرائيل لمنح روسيا حصة للتنقيب في الحقول الإسرائيلية المكتشفة.

إسرائيل تحتاج تركيا في في جميع سيناريوهات إيصال الطاقة إلى أوروبا، إذ يمكن أن تقوم بمد خط إلى القارة العجوز عبر قبرص، على الرغم من العقبات التي تعترضها من مشاكل قبرص السياسية والحدودية، ومن عمق المياه. إسرائيل تستخدم هذا الخط كورقة ضغظ على موسكو لإرضاء تركيا التي تنحصر مشكلتها بقيام دولة كردية على حدودها، وتسعى تركيا بشتى الوسائل لمنع قيام تلك الدولة.

وعلى الرغم من أنّ الروس لا يريدون مشاركة الأتراك لهم في الأرض السورية، إلا أنّ أنقرة ترى من الضروري والأكثر أماناً للمستقبل، أن تتدخل في الشمال السوري وتمنع قيام الدولة الكردية.

من الضروري جداً للولايات المتحدة وإسرائيل تخفيف اعتماد تركيا على مصادر الطاقة الإيرانية، التي باتت وإلى حد كبير المحرّك الوحيد لعجلة الاقتصاد الإيراني، مما يسرّع بانهيار الاقتصاد ودفع الشارع الإيراني إلى الانفجار وإسقاط النظام. هذا سيساعد على إجبار إيران التي تملك ثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم، على ضخ شنحات الغاز داخل أنبوب "ناب" التركي لتخفيف الضغط الروسي على الأوروبيين.


إذن، اضطلاع روسيا بحصة من الغاز الإسرائيلي والمشاركة بنقله، تتطلب إرضاء الأتراك الذين استطاعوا حتى الآن إمساك العصا من منتصفها على اعتبار تركيا عقدة أنابيب الطاقة المتجهة نحو أوروبا، وذلك أيضاً فرض على الأوروبيين ضرورة الحفاظ على الهدوء على المسرح التركي، كضرورةٍ لوصول إمدادات مستقرة.

عند الحديث عن الطاقة لا يمكن أبداً الاقتصار على الجانب الاقتصادي والمكاسب المالية، إذ أنّ البُعد الاستراتيجي والجيوسياسي يفرض نفسه على جميع اللاعبين. لم تكن الموارد الطبيعية أبداً نقمةً على الشعوب على امتداد الحضارات، إنّما تُمَثَّلُ النقمة الحقيقية بأنظمةِ حكمٍ بائدٍ وحكّامٍ دمّروا الدولة والمجتمع ليخسروا وتخسر الشعوب معهم الأرض والوطن.

ترك تعليق

التعليق