وسط فوضى الأرقام.. عن ماذا يمكن أن تستغني الأسرة في دمشق؟


أكدت مصادر بحثية عديدة وصول تكاليف معيشة الأسرة القاطنة في العاصمة عام 2018 إلى 310 آلاف ليرة سورية شهرياً، لترتفع عن عام 2017 بحوالي 50 ألف ليرة بعد أن كانت 260 ألف ليرة مرتفعةً عن عام 2016 الذي كانت فيه تكلفة المعيشة للأسرة الواحدة 244 ألف ليرة شهرياً.

تكلفة المعيشة عام 2010 لم تتجاوز 30 ألف ليرة سورية شهرياً، وكان متوسط دخل الأسرة 25 ألف ليرة أي ما يُعادل آنذاك 500 دولار أمريكي وفقاً لسعر الصرف 50 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد. بينما تغيب منذ عام 2011 البيانات الرسمية لمتوسط دخل الأسرة، ويبلغ حالياً الراتب الشهري لموظف في القطّاع العام بين 35 و 40 ألف ليرة سورية أي ما يُعادل 75 دولار أمريكي بسعر صرف 520 ليرة للدولار الواحد، ولا يختلف كثيراً عن ذلك الراتب الشهري لموظف أو عامل في القطاع الخاص.

عدّة عوامل أدّت لارتفاع تكلفة المعيشة أهمّها انخفاض قيمة الليرة السورية لأكثر من عشرة أضعاف أمام سعر صرف الدولار الأمريكي وارتفاع أسعار المحروقات نتيجة انخفاض القدرة الإنتاجية وخروج الكثير من المصانع العامّة والخاصّة عن الخدمة وانخفاض رهيب في الإنتاج الزراعي المحلّي ومغادرة رؤوس الأموال من سوريا بسبب ظروف الحرب إضافةً إلى العزلة الإقليمية والدولية التي يعيشها "نظام الأسد".

تتغنى وسائل إعلام "نظام الأسد" الرسمية والمُقرّبة منه مُعنونةً منتجاتها الإعلامية بـ "دمشق أرخص من دبي واسطنبول" نظراً لمؤشّر موقع (Expatistan) الذي أعلن مراراً أنّ مدينة دمشق الأرخص في الإنفاق عالمياً، وبالرغم من أنّ الموقع يستند للتقييم وفقاً لأسعار باقة المنتجات والخدمات المُصنّفة في خانة الأغذية والسكن والألبسة والنقل والعناية الصحية والترفيه إلّا أنّه و"نظام الأسد" يتجاهلان انعدام الدخل في المدينة ذاتها ولا يُقارنان مستوى الدخل في اسطنبول ودبي مع الإنفاق، ناهيك عن اتخاذ (Expatistan) مدينة براغ الأوروبية مرجعاً رئيسياً لعمليات التقييم بعد المقارنة.

أمام مثل هذه البيانات المزيفة والتي لا تتمتع بالمصداقية، تقول الأمم المتحدة إنّ نسبة السوريين الذي يعيشون تحت خط الفقر بلغت 80% بعد أن كانت النسبة في العام الماضي 69%، كما يؤكّد البنك الدولي أنّ الفقر في سوريا زاد من مؤشّر الفقر العالمي، و6.5 مليون شخص بحاجة ماسّة للأمن الغذائي وتستشري البطالة بأكثر من 60% وفقاً لبيانات برنامج الأغذية العالمي.

أمّا فيما يتعلّق باعتراف "نظام الأسد" عبر المكتب المركزي للإحصاء حول حاجة الأسرة لـ 325 ألف ليرة سورية شهرياً بوصفه متوسط الإنفاق التقديري لعام 2018، فهنا لا بدّ من الوقوف قليلاً، ولو لم يكن من مصلحة "نظام الأسد" إبراز الأرقام لما فعلها، ورُبما تندرج حقيقةً في إطار تغيير الأسلوب التقليدي لاستدراج مُساعدات وإثارة العاطفة تحت غطاء الإنسانية، ولا يغيب علينا أنّ آخر مسح رسمي حقيقي أجراه نظام الأسد لقياس الفقر كان في عام 2007، حينها تحفّظت الجهات الرسمية على نشره لأنّه يُشكّل إدانةً صريحةً للسياسات الاقتصادية المُنفّذة لصالح رأس المال ورجال الأعمال على حساب أصحاب الدخل المحدود، فكان طي نتائج المسح وإخفائها الحل الأسلم أمام الرأي العام.

الأرقام الأخيرة المنشورة تدل على أنّ الاتفاقيات الصناعية والتبادل التجاري المُبرمة خلال سنوات الحرب "المستمرة" بين نظام الأسد من جهة و"وإيران، الصين، أذربيجان، بيلاروسيا، روسيا" من جهة فردية أخرى لم تدخل حيّز التنفيذ، وما هي إلّا تسويق إعلامي في محاولة لإحياء منظومة مُتوفاة اقتصادياً منذ العام 2012 مع بدء الحلقات الأولى لمسلسل انخفاض قيمة الليرة السورية.

الفجوة الواقعة بين متوسط الدخل ونسبة الإنفاق أدّت إلى تضاعف اقتصاد الظل في الأسواق، وهي الأنشطة الاقتصادية التي تُمارس دون دخولها في حسابات الناتج القومي، كما لا تخضع للنظام الرقابي، وكلما انتشرت بفعل ارتباطها بآليات الفساد تُعطي مؤشّراً سلبياً لازدياد تدهور الاقتصاد الرسمي، منها أسواق المضاربات المالية في السوق السوداء لصرف العملات وتجارة الممنوعات وإدخال وإخراج منتجات عبر الحدود بطرق غير شرعية.

ارتفاع الأرقام في الدراسات المُعلنة سواءً كانت "رسمية" أو عن مراكز بحثية تُعطي الحمية للتجار الذين ينتهزون أبسط الظروف لرفع أسعار منتجاتهم ولأصحاب العقارات المُجمّدة بيعاً وشراءً ويتم استثمارها في الإيجار للنازحين من بقيّة المحافظات والمناطق المُدمّرة كُليّاً وفقاً لقانون العرض والطلب وعرف الابتزاز، حيث بلغ سعر الكيلو الواحد من "الخيار، الكوسا، البطاطا، البندورة، البصل، الليمون" 450 ليرة، وكيلو "الفريز، الموز، التين، الاجاص" 850 ليرة، وسعر كيلو سودة الدجاج 2200 ليرة، وكيلو لحم البقر 4200، ولحم الضان 6000 ليرة، كيلو اللبن 600 ليرة، وجبنة الحلوم 2800، وجبنة الشلل 2600، وكيلو السمن البقري 3800 ليرة، وعلبة حليب نيدو 900 غرام 3600 ليرة، أمّا الحلويات فكيلو "المبرومة، الكنافة، أسية" تجاوز 10 آلاف ليرة سورية، والأسعار الرسمية للمحروقات ليتر البنزين 225 ليرة، ليتر المازوت 180 ليرة، ليتر الكاز 150 ليرة، اسطوانة الغاز 2500 ليرة، بينما تُباع بأسعار مضاعفة في السوق السوداء جراء قلّة وجودها في السوق الرسمية، وأجرة المنزل البسيط في منطقة ريفية شعبية بلغ حد 100 ألف ليرة، ويُسجّل سعر صرف الدولار الأمريكي في السوق السوداء "مبيع 527، شراء 525" بينما يُسعّر في المصرف المركزي "مبيع 438، شراء 434"، وسعر غرام الذهب عيار 21 غرام بـ 18900 ليرة.

يوماً بعد الآخر تتراكم الخسائر من الإنتاج المحلي جراء تعطل النظام الاقتصادي واحتكاره من قبل شركات وأفراد، ويتراجع النمو الاقتصادي الذي يترك أثراً واضحاً على قاطني العاصمة وغيرهم في بقية الجغرافية السورية، فالأسرة المُكوّنة من خمسة أشخاص تحتاج شهرياً ثمناً للغذاء أكثر من 150 ألف ليرة، وتحتاج لتنفق أجور للمواصلات والاتصالات والصحة والألبسة والتعليم والسكن وغيرها من الاحتياجات، في حين أنّ دخلها لا يتجاوز نصف ثمن الغذاء وحده، وأكثر الأسر تعتمد في تأمين مستلزمات معيشتها على الحوالات المالية الواردة كمساعدات شخصية من الأقارب المُهجّرين حول العالم، ذلك وسط استهتار "نظام الأسد" واستمراره في فبركة الأرقام والبيانات بحقّ مؤيّديه قبل مُعارضيه، وإن وضعنا المواد السابقة وأسعارها في جدول مفاضلات الأسرة، عن ماذا ممكن أن تستغني الأسرة السورية؟!

ترك تعليق

التعليق