عن هجرة العقول والكفاءات السورية.. وإيجابياتها


لم يحترم النظام في أوج قوته وسيطرته على مفاصل الدولة السورية ما يملكه السوريون من امكانيات عملية ونظرية، وعمل على تهميش المبدعين والمتميزين، وعمد إلى توظيف وتعيين الموالين فقط على أساس حزبي وطائفي، وهذا ما جعل سوريا من أهم الدول الطاردة للإبداع والتميز، وساهمت تلك العقلية في تحطيم بنى المؤسسات الوطنية وإغراقها بالفاسدين.

قمع وقتل ممنهج للكفاءات
 
لم يميز النظام بين عاطل عن العمل ومبدع في المؤسسات الوطنية في تعامله التعسفي، وعلى العكس طالت آلة القمع في بداية الثورة شرائح فاعلة في الدولة السورية حيث رأى فيها النظام خطراً أكبر من حراك بقية الفئات التي ثارت ضده.

اعتقلت أجهزة الأمن المدرسين والأطباء والصحفيين والعمال المهنيين، وتم زج الكثيرين منهم لفترات اعتقال طويلة، وتعرضوا لأقسى أنواع التعذيب، ومنع عنهم الاجازات الطويلة، وتم توقيف رواتب الكثيرين منهم لتغيير مواقفهم في دعم الثورة، وهذا ما دفع بهم إلى الهرب خارج البلاد أو البقاء في الأماكن التي سيطرت عليها المعارضة، وبالتالي باتوا فيما بعد أهدافاً رئيسة لضرباته، واستهدف المراكز الإعلامية ومن ثم النقاط الطبية وذلك لإضعاف قدرة الناس على الصمود.

محاولة استقطاب.. ولكن

جريدة الوطن المملوكة لرامي مخلوف نشرت ملخصاً لدراسة غير منشورة للباحثة سمر قصيباتي تضمنت آليات يمكن أن تؤدي إلى إعادة استقطاب من شردتهم الحرب من كفاءات، ومن هذه الآليات توفير بيئة جاذبة للكفاءات من فرص عمل ومعيشة لائقة واحترام الحقوق.

وأيضاً تطرقت الدراسة إلى اقتراح سياسات وبرامح لإعادة الاستقطاب مثل: "توفير إدارة شاملة للهجرة الخارجية، واحتساب معدلات تسرب الكفاءات للخارج في كل القطاعات، ووضع قاعدة بيانات للمهاجرين السوريين في الخارج، وجعل قطاع المغتربين قطاعاً واعداً، والتشبيك مع مجالس رجال الأعمال، إلى جانب تعزيز روابط التماسك الاجتماعي بين المهاجرين وأسرهم، وتنفيذ برامج حماية اجتماعية من آثار الحرب المدمرة".

أما العنوان الأكثر غرابة من بين هذه الاقتراحات فهو "تقوية مقومات الانتماء الوطني".. وهنا تكمن المعضلة في بقاء نظام غير وطني على هرم السلطة في سوريا جعل منها دولة فاشلة، وأشاع فيها الفساد، وحولها نتيجة حماقاته السياسية والعسكرية إلى دولة محتلة.

استثمار المهاجرين

الدراسة اقترحت عدم اعتبار هجرة الكفاءات ونزف الأدمغة هي فوات منفعة أو فرصاً ضائعة بشكل كامل، بل فرصة للاستثمار فيها كما رأت الباحثة: "من الممكن الإفادة من قطاع المهاجرين وجعله قطاعاً تنموياً واعداً مع إدارة استثمار التدفقات المالية السورية في تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي وأرصدة ميزان المدفوعات والميزان التجاري في مرحلة سورية ما بعد الأزمة".

مؤشرات سلبية اقتصادية
 
الدراسة المذكورة عرضت مؤشرات لانهيار الاقتصاد السوري نتيجة هذا النزف البشري والمادي الذي تعرضت له البلاد: "انخفاض الإنتاج المحلي الإجمالي من (2529.7) مليار ليرة عام 2010 إلى (1345.8) مليار ليرة عام 2016، كما تناقص الاستهلاك الوسيط أثناء سنوات الأزمة مع تفاقم أزمة القطع الأجنبي وتغيرات سعر صرف الليرة السورية وخاصة للمستوردات من مستلزمات الإنتاج المحلي من أجل إصلاح خطوط الإنتاج والتجهيزات".

كما عزت الدراسة انهيارات أخرى في قطاعات مختلفة إلى العقوبات الاقتصادية والحصار المفروض على سوريا:
(تدنت نسبة مساهمة إنتاج قطاع تجارة الجملة والتجزئة في الإنتاج المحلي الإجمالي من 15 بالمئة عام 2010 إلى 5 بالمئة عام 2016، حيث تأثر العديد من رجال الأعمال والتجار بالعقوبات الاقتصادية".

أرقام مفزعة.. وإيجابيات

الدراسة التي تناولت انهيار قطاع التعليم العالي في سوريا كمثال على نزيف الكفاءات رأت في الوقت نفسه ايجابيات مالية لهذا النزيف وهذا ما رأت أنه ينطق على بقية القطاعات.

ففي حقل التعليم العالي: "نسبة تسرب الكادر التدريسي إلى 43 بالمئة بجامعة دمشق فقط حتى عام 2016، وكل ذلك يمثل أهم التداعيات والمنعكسات السلبية من هجرة العقول السورية ونزف الكفاءات، سواء من هجرة الكفاءات العالية من الأطباء والمهندسين والهيئة التدريسية العليا أو من هجرة أصحاب الأعمال الحرة والمستثمرين والفنيين والحرفيين".

أما وكيف تنعكس هذه الانهيارات ايجابياً: "الهجرة تساهم في الحدّ من الفقر، وتحسين الدخل المعيشي، وتؤدي إلى انزياح العديد من ذوي الدخل المحدود إلى أسر معيشية متوسطة الدخل، وتلبية الحاجات الضرورية فقط".

كذلك مساهمة تحويلات هؤلاء المهاجرين في إنعاش الأسواق المحلية بشكل عام، ويمكن أن يكون تأثيرها أكبر حينما تستثمر هذه التحويلات في مشاريع صغيرة ومتوسطة.

الدراسة غير المنشورة لا تحاكي حتى نظرياً حجم المأساة والخسارات الكبرى التي لحقت بالمؤسسات السورية، وحجم القتل الذي مارسه النظام بحق الكفاءات السورية، وبالتالي ربما دراسات أكثر موضوعية ومحايدة تتلمس هذا التدمير الهائل لشرائح مبدعة سورية.

ترك تعليق

التعليق