رمضان في حوران.. لم يعد شهر "طعام الرجال"


"هذا الشهر يُعرف عند البعض في حوران بأنه شهر (طعام الرجال)"، هكذا حدثنا الحاج "أبو عبد الرحمن"، 68 عاماً، ممازحاً. وأضاف لافتاً إلى أن الرجال في هذا الشهر، هم من يحددون قائمة الطعام اليومية ويختارون أصنافه، ويتدخلون بكل شاردة وواردة؛ تتعلق بالأطباق الرمضانية.

وتابع: "ليس هذا فحسب؛ بل كان بعض الرجال يدخل إلى المطبخ، ويساعد في إعداد أنواع الطعام"، مشيراً إلى أجواء الألفة والمحبة التي كانت تسود بين الأسر؛ بسبب الراحة المادية والنفسية الجيدة مقارنة بالوقت الحالي.

أما اليوم، وللعام التاسع على التوالي، يرى الكثير من أهالي درعا، أن موسم رمضان بات ضيفاً ثقيلاً ينوء تحت ثقله غالبية الأهالي؛ بسبب الفقر وضيق ذات اليد، الذي بات يعاني منهما السواد الأعظم من أبناء الشعب السوري.

ليس هذا فحسب، بل يزيد من ثقله أيضاً صراخ الذكريات، والحنين الموجع للأيام الخوالي، التي كانت تجتمع فيها الأسر، ويلتم شمل أفرادها مهما كانت المسافات بعيدة بينهم.

 الحاج "أبو عبد الرحمن"، وهو ميكانيكي سيارات، عاش لفترة خارج سوريا، تابع بث مواجعه لنا قائلاً: "كان شهر رمضان بالنسبة لنا، عدا عن كونه شهر عبادة، هو شهر الراحة وزيارة الوطن ولقاء الأحبة والأهل".

وأضاف: "كان معظم المغتربين، يؤجلون زياراتهم السنوية إلى الوطن لهذا الشهر، فهو معروف لدينا بشهر اللمات الجميلة، والسهرات الطويلة والإنفاق الباذخ على الطعام والشراب".

وأشار إلى أن الأسر كانت تخصص مبالغ إضافية كبيرة لهذا الشهر، حيث كانت فرص العمل متاحة، ومصادر الدخل متوفرة، والأسعار مقبولة، لافتاً إلى أن الأهالي كانوا يستقبلون رمضان قبل عدة أيام من حلوله بالزينات والفرح، والأهازيج، والتكبير، وشراء مختلف أنواع الطعام والشراب وبكميات كبيرة.

وقال بنبرة ممزوجة بالألم: "لكن الحرب اللعينة التي شنها النظام وأعوانه علينا سرقت منا كل ذلك، وحرمتنا من أبسط حقوقنا كبشر، وهو الشعور بالأمان ولو للحظات".

ويتابع صديقه "أبو سالم"، وهو ضابط متقاعد، يقاربه بالعمر، بعد أن أخذ نفساً عميقاً، "لقد تغير كل شيء يا صديقي، لم يعد رمضان يجمع الشمل كما كان في السابق، والوطن الذي كان يجذب المغتربين؛ للعيش لحظات جميلة في أحضانه، بات منفراً وطارداً، بعد أن استولى على مقدراته، ثلة من اللصوص والمجرمين وشذاذ الآفاق".

وأضاف أن الحرب التي تعيشها البلاد، ضيعت كل الأشياء الجميلة، التي اعتاد عليها الشعب السوري، ومنه أهالي حوران، فلم تعد هناك زينات ولا أفراح، ولا طقوس رمضانية جميلة، فالفقر هو سيد المشهد وعدم الشعور بالأمان أصبح حالة سائدة؛ تؤرق جميع الأهالي، بعد أن انتشر القتل، والاغتيالات، وأصبحت رائحة الموت تفوح من كل مكان.

وأشار إلى أن جميع الأنشطة الاقتصادية، والحياتية، متوقفة؛ بسبب عدم وجود فرص عمل، وقلة السيولة المادية في أيدي الناس، لافتاً إلى أنه منذ أن سيطر النظام على درعا تراجعت أحوال الناس، وفقد الكثير منهم مصادر دخله، كما تراجعت حوالات المغتربين إلى ذويهم بشكل كبير، بعد أن كانت تشكل دعماً يعزز صمودهم في مواجهة الفقر.

وأضاف أن شهر رمضان أصبح خلال الحرب شهر "الذكريات الموجعة" بعد أن تشتت الأسر، وفقدت معظم أفرادها، بين قتيل، ومعتقل، ولاجئ ومغيب قسرياً، وهارب.

وأشار إلى أن أفراد معظم الأسر، الذين فرقتهم الحرب لم يعد بمقدورهم الاجتماع على الموائد الرمضانية ثانية، وأصبح الآباء والأمهات يتناولون وجباتهم الرمضانية مملوءة بالغصات، وممزوجة بالدموع على أحبة كانوا في الأمس يجتمعون ها هنا، كان لكل واحد منهم أكلته المفضلة وطقسه الرمضاني الخاص.

وقال: "من يستطيع تأمين صنفين أو أكثر من الطعام في هذه الظروف الصعبة يعتبر غنياً"، لافتاً إلى أن الكثير من الأسر باتت عاجزة عن تأمين قوت يومها؛ بسبب الفقر وانتشار البطالة، وغياب مصادر الدخل الثابتة.
 
وتقول الستينية فضة المحمد (أم مزاحم): "بالأمس كان أولادي وأحفادي يجتمعون عندي كل الأيام الرمضانية، لكن اليوم لا أحد منهم معي، وبدل أن أعيش في بيت العائلة، أصبحت أعيش في غرفة عند أخي".

ولفتت إلى أن أسرتها تشتت، وذهب كل واحد من أولادها في حال سبيله، فمنهم من غادر البلاد بحثاً عن الأمن والأمان، ومنهم مازال رهن الاعتقال في سجون النظام، فيما أحدهم مات شهيداً.
 
وقالت: "أما مزاحم فقد سافر إلى تركيا مع عائلته، فيما يعيش طارق مع أسرته في الأردن. ضياء والأصغر منه قاسم، فهما معتقلان ولا أدري عنهما شيئاً".

وأضافت أنها وزوجها "أبو مزاحم" قررا البقاء في سوريا، في انتظار خروج ابنيهما، لكن أبو مزاحم توفي العام الماضي، ولم تكتحل عيناه برؤية ولديه.
 
وأضافت: "الله العليم أني أسير على دربه، ويبدو أني سأموت, دون أن أرى أي واحد من أولادي ثانية".
 
فيما أكد الشاب ساهر العلي، 36 عاماً، وهو عسكري منشق من حماة، كان يخدم في صفوف قوات النظام في درعا، أنه لم يستطع رؤية أهله منذ بداية الثورة؛ لتعذر وصوله إليهم، مشيراً إلى أن عائلته، التي كانت تتكون من 8 أفراد لم يعد يعرف عنها أي شيء.

وأضاف أنه تزوج في درعا، وكوّن أسرته الخاصة، موضحاً أن لديه الآن ثلاثة أطفال، على ما يبدو لن يعرفوا جديهم، وأعمامهم وعماتهم.

وتعيش محافظة درعا شهر رمضان في نسخته التاسعة، غارقة بالهموم المعيشية والحسرات، بعد أن استعاد نظام الأسد سيطرته على الجنوب السوري، في ظل تراجع كبير لجميع الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء واتصالات، يترافق كل ذلك مع غلاء فاحش بالأسعار، طال جميع السلع الاستهلاكية المحلية والمستوردة، ووصل سعر كيلو البندورة فيها إلى 450 ليرة سورية والبطاطا إلى 400 ليرة سورية، في محافظة تعتبر الأولى في سوريا، في إنتاج هاتين المادتين.

ترك تعليق

التعليق