"أبو علي" و"أبو سامر".. من قصص مصابي الحرب في جيش الأسد


على الطوابير الطويلة أمام محطات الوقود حيث التهريج والتمييع الرسمي الهادف لاحتواء غضب الناس، التقى الخمسيني "أبو علي" مع صديقه "أبو سامر" الأربعيني، بعد أن باعدت الحواجز الأمنية بينهم لثلاثة أعوام.

التقيا سابقاً في المستشفى العسكري 601 بمنطقة المزة وسط دمشق، حالتهما الصحية يُرثى لها، الأول تعرض للإصابة جراء انفجار مدفع الهاون بين يديه على أطراف الغوطة الشرقية، نسبة العجز لديه تجاوزت 70%، والآخر أُصيب خلال الاشتباكات العنيفة في أطراف داريا، نسبة العجز لديه 50%.

على أسرّة الموت كانت ألسنتهم تنطق بشجاعة، يتساءلان وأُمنية الموت لا تفارقهما، "لأجل ماذا، وماذا بعد الآن؟"، فلا صندوق مالي للجرحى ولا مؤسسات مستقلة، وراتب المرابط على خطوط الاشتباك لا تكفيه أيّاماً، ولا يمكن أن يحظيا بوظيفة وهم من ذوي الاحتياجات الخاصة.

الواقع المأسوي للجرحى الثائرين بوجه نظام الأسد والقوى المناوئة له لا يختلف كثيراً عن جرحى النظام سوى أنّهم يتبعون لنظامٍ يُحاول حتى اليوم الإيهام بأنّه يعمل بعقلية مؤسساتية ومن ضمنها عدم التخلي عن الجرحى الذين افتدوه، والمشترك بين الجانبين غياب الأرقام، إذ تغيب عن الأول لعدم وجود مؤسسات توثيقية قادرة على الوصول للمعلومات وتُعلن ما تصل إليه بشكلٍ تقريبي، وتُغيّب في الجانب الآخر نهائياً لاعتباراتٍ سياسية.

وتوقفت المفوضية السامية لحقوق الإنسان عن توثيق الضحايا "قتلى ومصابين ومعتقلين" منذ مطلع العام 2014، وأخذت على عاتقها تلك المهمة عدّة منظمات حقوقية محلية، وفي العام 2015 وثق المركز السوري لبحوث الدراسات 1.9 مليون مصاب سوري، إلّا أن التقرير الصادر عام 2018 عن منظمة الصحة العالمية يقول إنّ مجموع الإصابات الموثقة في سوريا بلغ ثلاثة ملايين منهم 86 ألف تعرضوا لبتر الأطراف.

وبالعودة إلى "أبو علي"، و"أبو سامر"، فالأول أصبح بائعاً لبسكويت الأطفال أمام إحدى المدارس الابتدائية في ريف دمشق، والآخر بائعاً لورق الـ "يانصيب" وسط العاصمة، يشتركان فيما بينهما بوسيلة النقل المعروفة بالدراجة النارية ذات الإطارات الثلاث، محرومان من حقهما في الالتحام بحلقات الرقص والدبكات.

زجّ نظام الأسد عناصره في كافة الجبهات، وألحقهم بميليشيات أجنبية طائفية، ضربهم بعضاً ببعض، تخلّى عنهم، تاركاً أسرهم في كواكب "زمردة" الشاحبة يبحثون عن لقمة أطفالهم ودوائهم بلا مُعيل، عاجزاً عن تأمين أبسط احتياجات من بُترت ساقه ويده وانتزعت الشظايا أشلائه.

اتفاقية جنيف لعام 1949 المتعلقة بشؤون الجرحى تُلزم "الدولة" بتقديم الخدمات إلى ما بعد المستشفى لا سيما "المعوقين" من المصابين، وإعادة تأهيلهم بهدف تمكينهم في توفير الأدوات المساعدة على تأمين مستلزماتهم بشكل مستقل. لكن الجريح في "سوريا الأسد" يواجه صعوبةً بالغةً في استكمال علاجه والاندماج في المجتمع مجدداً، كما يتكبد تكاليف المراجعات المستمرة للمراكز الصحية وتكاليف شراء الأدوية.

وإضافةً لمزايا عديدة شكلية، حظيت صناعة الشوكولا السائلة والمخللات والألعاب القماشية طيلة السنوات الماضية، بأولويات برامج تدريب مصابي الأسد لإعادة دمجهم في السوق. وفي العام 2016 أعلن البنك الدولي الإسلامي عن منح مالية لجرحى جيش الأسد ممن بلغت نسبة العجز لديهم 70% لمساعدتهم في إقامة مشاريع متناهية الصغر، لحقها في العام 2017 تخصيص وزارة الإسكان 20 شقة سكنية لـ 20 مصاباً كل عام، وتلاها بعد عام صدور القانون رقم 45 القاضي بحق اكتتاب المصاب على سيارة سياحية محلية الصنع معفاة من الرسوم والضرائب، ومؤخراً أعلنت الشركة السورية للاتصالات منح معاقي الجيش "حسب وصفهم" البالغة إصابتهم 50%  إعفاء عن تركيب الهاتف الثابت و130 مكالمة هاتفية محلية مجاناً و20 مكالمة قطرية وتخفيض أجور مكالمة الجوال من 13 ليرة إلى 11 ليرة سورية، ناهيك عن الهدايا الرمزية التي تُقدم بين الآونة والأخرى كـ "الماعز والساعات الحائطية".

عدم حصول "أبو علي" وصديقه "أبو سامر"، على تلك المزايا، كان سبباً في التقائهما مجدداً في طابور محطة الوقود، واستكمال دردشتهما وتذمرهما الذي بدأاه في المستشفى، حيث ما كان متوقعاً بالنسبة إليهم أصبح واقعاً ويقيناً.

وبعد المرسوم 20 لعام 2018 الخاص برفع رواتب العسكريين أصبح الراتب الشهري لـ "جندي أول" درجة أولى 41715 ليرة سورية، وما زال الغموض يلف مشهد رواتب مصابي الميليشيات المساندة كـ "الدفاع الوطني و "الحرس القومي" و"نسور الزوبعة".. وغيرها، إذ أنّه وفي ذات العام وبعنوان "بشرى سارة" قالت "صحيفة الوطن" إن الأسد وجه لصرف 202 مليون ليرة سورية كرواتب لأسر الشهداء والجرحى في "الدفاع الوطني"، ومع ذلك أكّد حينها أيمن بلال، عضو "مجلس شعب الأسد"، أنّ الجرحى لم يتلقوا سوى جزءاً من مستحقاتهم بموجب توجيه رأس النظام.

يُمكن الاستناد لإجراءات الأسد بحق أنصاره لاستنتاج أنّ الوطن السوري لم يكن سابقاً ولا الآن، حضناً دافئاً لأبنائه من كُلّ الأطراف والأطياف، ولا ملجئاً ومسكناً لهم في كل الأوقات، ولا أمّاً تفكر بأحوالهم وهمومهم، بل كهلاً، يُضحي بكل ما حوله من "بشرٍ وحجر" تحقيقاً لمصالح الطغاة والمستبدين الذين حرموا المقهورين لذّة الاستقلال والحرية التي حارب لأجلها الإنسان في التاريخ الحديث والقديم في كلّ زمانٍ ومكان.


ترك تعليق

التعليق