اقتصاديات.. عودة إلى "صحافة الزبالة والصرف الصحي"


زادت وسائل إعلام النظام من جرعة البرامج التي تتحدث عن قضايا الزبالة والصرف الصحي، بدعوى معالجة هموم الناس ومشاكلهم، حيث احتلت هذه البرامج جزءاً كبيراً من بث التلفزيون السوري، بالإضافة إلى اللقطات المميزة في الصحافة الرسمية.

وفكرة التركيز على موضوع الزبالة والصرف الصحي، من بين كل الهموم والمشاكل التي يعانيها الشعب السوري، تعود إلى صحافة الثمانينيات أيام حافظ الأسد، حيث أن النظام في تلك الفترة، وبسبب ارتفاع حدة الفساد في السلطة، ورغبة وسائل الإعلام في أن يكون لها دور في الحديث عن ملفات الفساد هذه، قام بتوجيه الصحفيين، نحو المواضيع التي تعنى بتدني مستوى الخدمات، ومنها موضوع الزبالة والصرف الصحي، ضارباً عصفورين بحجر، الأول، إشعار الناس بأن الإعلام يقترب من معالجة همومهم، والثاني، إبعاد الصحفيين عن السياسة أو الدخول إلى مواطن الفساد الحقيقية في الدولة..

وهذا الأمر دفع النظام لاحقاً للتخلص من الكثير من الصحفيين، ممن كانوا يحملون أقلاماً جريئة وفكراً حراً، واستبدلهم بشباب صغار لا علاقة لهم بمهنة الصحافة، وكل همهم البحث عن فرصة عمل وظهور اسمهم في وسائل الإعلام.

وعلى مدى ثلاثين عاماً من هذه السياسة الإعلامية، خرج جيل كامل من الصحفيين، يعتقد بأنه إذا التقط صورة لحاوية زبالة، أو شاهد مجروراً في وسط الشارع، فسيكون سبقاً صحفياً كبيراً، بينما مرؤوسيهم كانوا يشجعونهم ويثنون عليهم، ويطالبونهم بالإكثار من هذه المواضيع، في وقت كانت تغرق فيه البلد كلها بالزبالة والأوساخ.

في نهايات عهد حافظ الأسد وبدايات ابنه بشار، خرج جيل جديد من الصحفيين، ممن تخرجوا من كلية الإعلام، والذين راحوا يقتربون من المواضيع الحساسة، وبالذات ممن استطاعوا العمل في وسائل الإعلام الخارجية، وهو ما دفع النظام في ذلك الوقت إلى توسيع فسحة الحرية المتاحة للصحافة الداخلية، لكن ظلت هناك خطوط حمراء كثيراً، يحرم على الصحفيين الاقتراب منها، وعلى رأسها رئيس الجمهورية ورامي مخلوف والجيش والمخابرات والحزب ومحافظ حمص.

ظلت هذه الفسحة مستمرة حتى انطلاق أحداث الثورة السورية في العام 2011، حيث عاد النظام إلى خنق وسائل الإعلام، وزاد من جرعة المحرمات، حتى أصبح الصحفي لا يستطيع انتقاد رئيس بلدية جرمانا ودف الشوك.

مؤخراً، ومع إيهام النظام للسوريين بأن الأوضاع بدأت تعود إلى سابق عهدها، ومع ازدياد حالات الفساد، وتدني مستوى الأوضاع الخدمية على كل الصعد، بالإضافة إلى عدم قدرة النظام على ضبط تذمر الناس على وسائل التواصل الاجتماعي، قرر أن يزج بوسائل إعلامه في هذه المعمعة، في محاولة لإقناع السوريين، بأنه يهتم بمشاكلهم ويسعى لمعالجتها، وأنه يقف إلى جانبهم ضد فساد المسؤولين.

إلا أنه لم يستطع أن يستحضر سوى تجربة الثمانينيات، وهي حصر هذه المشاكل في قضايا الزبالة والصرف الصحي، وصرف اهتمام الناس عن القضايا الأكثر أهمية، وبالذات شؤون الحياة المعاشية من غلاء واستغلال، بالإضافة إلى أعمال السطو والبلطجة التي تقوم بها عصابات النظام على الحواجز الأمنية.

لذلك بدأ تلفزيون النظام بعرض عدد من البرامج، يتجول فيها الصحفيون في شوارع المدن، ويقومون بتصوير الأوساخ وبعض المخالفات، ثم يجمعون الناس حولهم، لكي يقولوا ما يشاؤون، ويعبرون عن غضبهم بالطريقة التي تريحهم. لكن فقط فيما يتعلق بموضوع الزبالة والصرف الصحي

والأدهى من ذلك، تقوم المذيعة، بالاتصال بالمسؤولين، أمام الكاميرا والناس حولها، وتصر على التعريف بنفسها وذكر كنيتها التي تنتهي بـ "جعفر"، ثم تؤنبهم على تقصيرهم، وتطالبهم بضرورة أن يقفوا إلى جانب قضايا "الأخوة المواطنين".

أحد هؤلاء الذين اتصلت بهم، وكان رئيس مجلس مدينة حلب، قال لها بلهجته الحلبية الخشنة.. "والله يا أخت جعفر نحن مالنا علاقة بالموضوع اللي عم بتحكي عنو.. بعدين والله نحن مو طالع بإيدنا شي.. ما عنا امكانيات"، ثم أقفل الخط بوجهها.


ترك تعليق

التعليق