أسباب سياسية مشفوعة بظروف اقتصادية.. تؤجج مظاهرات دير الزور


هل لعبت الأوضاع الاقتصادية للسكان دوراً في تأجيج الاحتجاجات ضد نظام الأسد بضواحي دير الزور الشمالية؟، لماذا دعمت "قسد" المظاهرات أمنياً ولوجستياً وإعلامياً، وهي التي أخمدت احتجاجات نيسان وأيار بحملات الدهم والاعتقال؟

هذه التساؤلات تطرح نفسها على المتابع لما يجري على تخوم دير الزور، وهو يرى جموع النازحين تنتفض ضد النظام وميليشيات إيران عقب تصريحات أطلقها قيادي محلي يدعى فادي العفيس في رسالة مصورة وجهها إلى وجهاء قبيلتي "البكارة" و"العكيدات"، وهما السواد الأعظم لسكان المحافظة، يدعوهم فيها للعودة إلى "حضن الوطن" وعدم تشكيل "جيش عشائر" لمساندة "قسد" والذي تعمل أمريكياً على تأسيسه بغرض السيطرة على مناطق تحت سيطرة النظام هناك.

تزامن هذه التصريحات مع تغيرات أساسية بخطاب النظام وإعلامه الرسمي حين بدأ يصفها بـ "ميليشيا قسد الانفصالية المدعومة من قوات الاحتلال الأمريكي" عقب انتهاء القمة الثلاثية الخامسة لمسار سوتشي بين روسيا وإيران وتركيا بأنقرة، ويبدو أنهم اتفقوا على إقصاء الإدارة الكردية من الحل السياسي، بعد أن كان النظام يتجاهلها تماماً في الإعلام، فجاء الرد من الإدارة الكردية في بيان منتصف الشهر الجاري كشف عمق الخلافات وتوقف المفاوضات، قالت فيه، إنها قدمت 11 ألف قتيل و24 ألف جريح لحماية "المنطقة من الارهاب" في حين تخلى عنها النظام، الذي دمر البنى التحتية بالقصف الجوي.

واتهمت الإدارة النظام بالعمل حالياً على إشعال "فتنة" مع تنفيذه أعمالاً تخريبية عبر من يرسلهم من مناطق سيطرته، وطالبته بالعودة للحوار للتفاهم معها على أساس الاعتراف دستورياً بالإدارات الذاتية وقبول بخصوصية "قسد" كقوة عسكرية، وهذا هو هدفها الأساس من حشد أنصارها وموظفيها لدعم مظاهرات "الأهالي المهجرين" بريف دير الزور الغربي، وبمجرد الوصول إليه ستعيدهم طوعاً إلى سلطة الأسد مع "الخصوصية" التي تتحدث عنها، وهي تحتاج لكل هذا لمواجهة الخطر التركي الداهم على معاقلها في الشمال.

وسبق هذا التراشق على العلن بين النظام والأكراد أزمة خانقة في المحروقات بمناطق "قسد" قد يعود لقلة المشتقات النفطية التي تعود بها صهاريج شركة "القاطرجي" من مناطق سيطرة النظام حين تأتي لنقل النفط الخام، استغلها النظام لعقد مقارنة بينه وبين الإدارة الكردية، وهذا الأمر عالجته الإدارة الذاتية برفع أسعار المازوت من 55 إلى 75 ل.س بالمحطات والحر130 - 140 ل.س (سوق سوداء) لتشجيع أصحاب المصافي البدائية على زيادة الإنتاج لحسابها، لكنها تحقق هدفاً آخر وهو تخفيض جدوى تهريب المشتقات النفطية نحو مناطق النظام حيث يباع بسعر 170 ل.س أي بفارق 50 ل.س وكذلك بالنسبة لفروق سعر البنزين والكاز.

واستبقت "قسد" مظاهرات الجمعة الماضية بحملة كبيرة لتدمير عبّارات تهريب النفط في معابر التهريب المائية بمنطقة الميادين حيث مازالت جسور نهر الفرات مدمرة، وذلك لتعزيز موقعها كصاحبة القرار بهذا الشأن.

في السياق، قال الرئيس المشارك لمجلس دير الزور المدني غسان اليوسف في تصريحات لوسائل إعلام الإدارة الكردية بأنّ المظاهرات كبيرة وخرجت بدعوة من نشطاء ينحدرون من سبع قرى تسيطر عليها قوات النظام المدعومة بتواجد روسي، ورفعوا شعارات تطالب التحالف الدولي "قسد"، بعودة أكثر من 200 ألف نازح من قرى "الجنينة والحسينية والصالحية وحطلة والطابية وخشام ومراط" وهي ضمن مناطق انتشار قبيلة البكارة، التي ينتمي إليها "فادي العفيس" وعناصره الموالين للنظام والمتظاهرين ضدهم وضد الميليشيات المدعومة إيرانياً.

واجتمع غسان اليوسف الأربعاء مع وجهاء العشائر بطلب من التحالف الدولي لتشكيل لجنة من وجهاء هذه المناطق للتفاوض على مصيرها ولمنع خروج مظاهرات جديدة غداً الجمعة بعد أن رفعت "قسد" السواتر بمحيط المعبر من جميع الجهات، لكن النشطاء يجهزون لمظاهرة تحمل اسم "شهداء الصالحية".

وكانت قوات النظام قد قتلت يوم الجمعة الماضي أربعة أشخاص وجرحت أكثر من عشرة غيرهم بينهم عناصر من ميليشيات "قسد" بعد إطلاق الرصاص على جموع المتظاهرين الذين اقتحموا اثنين من حواجزها وطالبوها بالرحيل، في معبر "الصالحية"، الذي يوازي معبري الطبقة ومنبج بأهميته الاقتصادية، لولا تدمير جسر "السياسية" على الفرات.

وأكد الناشط "العبدالله أبو تيم" من أبناء الريف الشمالي، أن الأهالي المهجرين ملوا حياة النزوح على مقربة من مناطقهم خاصة مع اقتراب الشتاء وفصل البرد، فوجدوا فرصة بالتوتر الأخير والخلاف بين النظام والإدارة الكردية للضغط على "قسد" بهدف العمل على إعادتهم لمنازلهم عبر طرد الميليشيات من قراهم، وذلك بدعم من عناصر "قسد" المنحدرين من تلك القرى أيضاً، لكن المجالس التابعة لها استغلت التظاهرات ورفعت لافتات داعمة لها.

وقال الناشط لـ "اقتصاد" إن الأسباب يمكن اختصارها بوجود ميليشيات "شيعية" تنشر التشيّع داخل مناطقهم وتعفش البيوت بحجة أنها لـ "إرهابيين"، مشيراً إلى أن المظاهرات تركزت قرب معبر الصالحية لأنه الطريق البري الواصل بين مناطق "قسد" والنظام تحت إدارة روسية، ويفرض كل جانب رسوماً جمركياً تحدد حسب نوع وكمية المواد والبضائع العابرة.

يعتبر معبر الصالحية، المعبر البري الوحيد، الذي يربط مناطق سيطرة قوات النظام وحلفائها، بمناطق سيطرة مليشيات "قسد" شمال مدينة دير الزور، ويكسب أهميته من كونه ممر عبور المدنيين والتجار وبالتالي المواد الغذائية, وهو المعبر البري الوحيد والأهم، مقابل وجود معابر مائية أقل أهمية، منها معبر الحوايج، ومعابر أخرى قرب بلدة الشحيل، لا يمكن النفاذ منها سوى لنقل المحروقات إلى مناطق النظام حيث تباع بأسعار أعلى (50 ل.س/لتر).

ولتجارة القمح باستخدام شاحنات كبيرة دور هنا، لأنها تعتبر أهم ما يعمل به التجار والحمالين (العتالة) بالمنطقة، وسبق أن صادرت قيادة "قسد" عدداً من تلك الشاحنات، مما أدى إلى خروج مظاهرة بالتنسيق بين العمال وبعض التجار من أجل الإفراج عن تلك الشاحنات المصادرة، خلال الأسبوع الأخير من آب أغسطس في مناطق "العزبة" و"معيزيلة" والشهابات وسوق الحبوب قرب معبر "الصالحية"، مطالبين بإعادة سياراتهم المحجوزة لدى "جمارك الإدارة الذاتية" بعد إغلاقها هذا المعبر، وسط استمرار عمليات تهريب البضائع سراً بإشراف متنفذين بميليشيات "قسد".
وفي نهاية نيسان أبريل وبداية أيار مايو الماضيين، أشعل أهالي بلدات الريف الغربي مظاهرات ضد "قسد" احتجاجاً على إرسال النفط إلى مناطق النظام علناً عبر الطرق العامة وسراً من خلال عمليات تهريب النفط والمشتقات النفطية عبر نهر الفرات من الريف الشرقي، قبل أن يتم إخماد الاحتجاجات من خلال حملات دهم واعتقال واسعة امتدت حتى ريف الحسكة الجنوبي بمشاركة التحالف.

من جهته، قال الناشط قياد العلوان المنحدر من بلدة "حطلة" لـ "اقتصاد" إن المتظاهرين عند اقتحامهم حواجز المعبر وجدوا الكثير من المصادرات بمقرات النظام، مشيراً إلى أن أسباباً عديدة جعلت المهجرين من بلدته وما يجاورها من قرى يتظاهرون ضد نظام بشار الأسد، فحياة النزوح تكاليفها باهظة ولا تتوفر فرص عمل وسط انتشار لظاهرة البطالة بشكل رهيب.

ومن الدوافع الاقتصادية أيضاً أن الأهالي لا يستطيعون الاستمرار في دفع إيجار المنازل في أرياف دير الزور وفي الحسكة أو الرقة، حيث ارتفعت إيجارات المنازل كثيراً (30 -55 ألف ل.س)، ويسعى هؤلاء المهجرون للعودة للعمل إلى أرضهم وزراعتها، من أجل الاستمرار بالحياة، فهم لا يحصلون على مساعدة منذ أكثر من سنتين على تهجير قوات النظام لهم من ضواحي دير الزور الشمالية نحو العراء بمحيط منطقتي معيزيلة والعزبة، وفق الناشط.

وأضاف العلوان أن الكثير من الشباب يفكرون ببيع قطع من أرضهم في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والميليشيات الشيعية، لكن سلطات النظام تطالب بحضور المالك شخصياً، وهذا الأمر يهدد حياتهم ويعيق مشاريع العمل والاستقرار.

وبيّن العلوان أن البعض الآخر يخطط للعودة إلى منازلهم ومحلاتهم التجارية وعياداتهم وصيدلياتهم أو العمل في الصناعة والتجارة وحتى تربية المواشي، أسوة بمناطق الجزيرة التابعة لمحافظة دير الزور، والتي تحسن وضعها تحت سيطرة "قسد" مقارنة بمناطق سيطرة النظام التي تعاني من غلاء بالمحروقات والمواد الغذائية، فهم حالياً لا يملكون الإمكانيات ورأس المال والأدوات ولا حتى الأرض لذلك، ولا يشعرون بالأمان في الرقة والحسكة بسبب طلب "قسد" للكفالات.

وأشار العلوان إلى أن خصوبة أرض المناطق الخاضعة لسيطرة النظام شمالي مدينة دير الزور ووفرة المياه يجعلها من أهم المناطق لتوفير فرص العمل للشباب وذلك لقربها من مركز المحافظة بضواحي المدينة وسهولة تسويق إنتاجها، عكس مناطق النزوح القاحلة والبعيدة نسبياً عن الفرات.

أيضاً، ظهرت مقاطع "استفزازية" نشرها قياديون في ميليشيات النظام يهددون بالسيطرة على كافة المناطق بخط الجزيرة مع فيديوهات سبقتها لعمليات استيلاء المليشيات الشيعية على منازل المهجرين وإحراق بعضها، كان لها دور في احتقان الناس استغلته "قسد" للرد على النظام على الأرض عبر ارسال مجموعات من عناصرها والموالين لها للمشاركة في المظاهرات الغاضبة ودعمها إعلامياً.

وسبق أن أغلقت "قسد" "معبر الصالحية" مطلع تشرين الأول أكتوبر 2018 بعد تعثر المفاوضات مع النظام وقول وزير خارجيته وليد المعلم إن "الهدف بعد إدلب سيكون شرق الفرات" للضغط عليه اقتصاديا، قبل أن تعيد افتتاحه بعد أسبوع. ويصل المعبر بين دوار "7 كيلو" تحت سيطرة "قسد" وقرية "الصالحية" ثم جسر السياسية ضمن مناطق قوات النظام، ويخصص لعبور المدنيين والبضائع من الجانبين. وحاول الأمريكيون إقناع الروس وقوات النظام بالانسحاب إلى جنوب الفرات في إطار حل سياسي دون جدوى.

يذكر أن قوات النظام غامرت بالسيطرة على قرى "الجنينة" و"الجيعة" و"شقرة" و"حويجة المعيشية" ضمن هجوم واسع في نيسان/أبريل 2018، قبل أن تعلن "قسد" استعادتها بهجوم معاكس وبدعم من قوات التحالف الدولي.

ترك تعليق

التعليق