في رهان الأتراك على النفط السوري بـ "المنطقة الآمنة".. العقبات والخيارات


في أقصى شمال شرق سوريا، وفي مثلث حدودي ينحصر بين العراق وتركيا، حيث كان يمر قطار الشرق السريع، الذي اختفى من خارطة النقل الفاخر، قبل أكثر من عقدٍ من الزمان، تقع هناك بلدة صغيرة اسمها "معبدة" أو "كركي لكي" كما يسميها الأكراد، يفصلها شارعٌ فقط عن واحدة من أشهر منشآت وحقول النفط السورية، "رميلان"، ذلك الاسم الأثير للذهب الأسود في التاريخ السوري. وقريباً من هناك تقع حقول السويدية، التي لا تقل شأناً عن رميلان، وإن كانت تتميز عنها بالغاز. وتشكل الطاقة الإنتاجية المحتملة لحقول هاتين المنطقتين، من النفط، ما يقرب من 200 ألف برميل يومياً. أي حوالي 50% من إنتاج سوريا النفطي، قبل العام 2011.

تقع حقول رميلان والسويدية في منطقة "المالكية"، حيث تذهب تقديرات إلى أن المنطقة ذات غالبية ديمغرافية "كردية"، قد تصل إلى حوالي 75%.

وحسب الخطة المزمعة، للمنطقة الآمنة، التي طرحها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أمام مسؤولي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، الشهر الماضي، فإن منطقة "المالكية"، ستكون من المناطق المستهدفة. مما يعني أن حقول رميلان والسويدية، الغنية بالنفط الثقيل، ستكون ضمن "المنطقة الآمنة"، حسب المخطط التركي.

الحقائق المشار إليها سابقاً، تلهب الكثير من النظريات، حول طمع الأتراك بالنفط السوري في شمال محافظة الحسكة. وتُدعّم تلك النظريات، بنظريات أخرى، لم تحظ بالبرهان بعد، تفيد بأن منطقة حقول رميلان، بالتحديد، تشمل ثروة نفطية أكبر بكثير مما هو مؤكدٌ، اليوم.

ففي العام 2013، نشرت مجلة "ذا ناشيونال انترست" الأمريكية، للشؤون الخارجية، تقريراً تحدث عن احتياطيات نفطية ضخمة غير مكتشفة في حقول رميلان، تقدر بـ 315 مليار برميل. نشير هنا إلى أن الاحتياطيات المكتشفة حتى الآن، في رميلان، تقدر بـ 69 مليار برميل. ويقدر كامل الاحتياطيات المكتشفة في سوريا بـ 200 مليار برميل. لكن إن صحت النظرية التي طرحتها المجلة الأمريكية، عن الرقم "315" مليار برميل، غير مكتشف، في حقول رميلان، فهذا يعني، مضاعفة احتياطي سوريا من النفط. وحسب المجلة، فإنها استندت إلى دراسة أجرتها جامعة دمشق، عام 2009، تفيد بأن حقول رميلان، إن تحققت الاحتياطيات المتوقعة فيها، ستغطي احتياجات الاستهلاك المحلي السوري لمدة 18 عاماً.

إن صحت المعطيات السابقة، وهي ما تزال في موضع "النظرية" التي تحتاج إلى برهنة، فهي تقدم تفسيراً لمصدر التمويل الذي يراهن عليه الأتراك في تنفيذ منطقتهم الآمنة، المزمعة.

فالرئيس التركي تحدث في الأمم المتحدة، عن خطة تفصيلية، تهدف إلى توطين مليون لاجئ سوري، مبدئياً، في المنطقة الآمنة. على أن يتوسع هذا الرقم إلى 3 ملايين سوري، حسب مسؤولين أتراك.

ووفق وسائل إعلام تركية، فإن التكلفة المتوقعة لإنشاء هذه المنطقة، حوالي 27 مليار دولار أمريكي. فالمنطقة الآمنة، حسب المنظور التركي، ستتضمن مدناً وبلدات، يمكن أن توفر أسس حياة مستقرة ومستديمة، للسوريين، وتشجعهم على العودة إلى سوريا.

إن جمعنا كل النقاط السابقة، معاً، فإننا دون شك، سنميل مجبرين، إلى تأييد النظرية القائلة بِرِهان الأتراك على النفط السوري، بشمال محافظة الحسكة، وتحديداً، في منطقة المالكية.

لكن، ذلك الرهان، دونه عقبات ومخاطر كثيرة. أبرزها، أن واشنطن لا تبدو في وارد منح الأتراك ضوءً أخضر للتمدد باتجاه منطقة "المالكية". وتوحي كل المؤشرات المتوافرة الآن، بأن الضوء الأخضر الأمريكي، يشمل فقط، المنطقة الممتدة بين رأس العين وتل أبيض، بطول حوالي 120 كم، وعمق حوالي 5 كيلومتر، أو أكثر قليلاً.

العقبة الثانية، تتعلق بأن منطقة المالكية، خلافاً لمناطق رأس العين وتل أبيض، هي منطقة ذات غالبية ديمغرافية كردية، وهي منطقة حدودية مع العراق، حيث ترتبط بمعبر مع إقليم "كردستان العراق". ومن المتوقع أن تُنحي المشاعر القومية "الكردية" الخلافات بين "أكراد قسد" و"أكراد شمال العراق"، مؤقتاً على الأقل، إلى حين التخلص من "الهجمة التركية" الراهنة. وهو ما تؤكده التصريحات الأولية الصادرة عن مسؤولي إقليم "شمال العراق". وبالتالي، من المتوقع، حصول دعم بالأسلحة والمقاتلين، وحراكٍ مسلحٍ "كردي"، لن يكون هيناً، مقارنة بمناطق "رأس العين – تل أبيض"، التي هي بالأساس، ذات غالبية عربية، والسيطرة "الكردية" فيها، هشّة.

أما العقبة الثالثة، فهي ربما تتعلق بما بعد السيطرة على تلك المنطقة "المالكية"، وموقف روسيا وإيران، ونظام الأسد، من استغلال الأتراك للنفط السوري. وفي هذه الحالة، من المتوقع، إن نفّذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعيده، بالانسحاب الكامل من "شرق الفرات"، أن نشهد صراعاً روسياً – إيرانياً – أسدياً، من جهة، وتركياً من جهة أخرى، بهدف السيطرة على مواقع النفط، في أقصى شمال شرق البلاد. وفي المراحل الأولى، قد تعطي موسكو ضوءً أخضر لصديقها التركي كي يتوغل أكثر في شمال شرق سوريا، ربما بهدف إبعاد الأمريكيين، ودفعهم للخروج من المنطقة. لكن إن تحقق الهدف الأخير، فإن موسكو لن تترك شمال شرق البلاد، للقبضة التركية، ولا يوجد ما يوحي بأن الروس سيقومون بخلاف ذلك، فهم يتمسكون باستعادة إدلب، الخالية من أي ثروات مُغرية، والكثيفة بالديمغرافيا المناوئة لهم، فكيف نتوقع أن يقبلوا بالتخلي عن "المالكية" الغنية بالنفط والغاز، وبالديمغرافيا "الكردية"، التي ستُرحب بهم، دون شك، إن كان البديل، تركيا؟!

لكن، تعليقاً على العقبات الثلاث آنفة الذكر، قد يقول قائل، إن تركيا تراهن على تمرير خطتها للمنطقة الآمنة، وفق مراحل، وفرضها كأمر واقع، بشكل تدريجي. كما فعلت في منطقتي "شمال حلب – درع الفرات"، و"عفرين – غصن الزيتون". وإن كانت العملية العسكرية التركية الحالية، التي تحمل شعار "نبع السلام"، من المرجح لها أن تقف، في أحسن الأحوال، عند حدود منطقتي رأس العين وتل أبيض، الفاصلتين بين القامشلي شرقاً، وعين العرب (كوباني) غرباً، فإن مراحل أخرى مستقبلية، سيكون الأتراك في انتظار الفرصة المناسبة لتحقيقها، بحيث تتمدد هذه المنطقة، شرقاً وغرباً، لتشمل الحيز الذي يراهن الأتراك على امتلاكه.

إن صحت القراءة الأخيرة، فهذا يعني أننا أمام صراع طويل الأمد، وخطير. ويكون توصيف بعض المراقبين له، بـ "المغامرة التركية"، دقيق. لكن، ما هي الخيارات الأخرى أمام أردوغان المثقل بعبء اللاجئين السوريين الذين باتوا أحد مصادر تراجع شعبيته، والمثقل أيضاً بتراجع الاقتصاد التركي، تحت وطأة صراعه مع واشنطن؟ الجواب ربما، الهروب إلى الأمام. إلى منطقة آمنة إن تحققت فستكون تحولاً تاريخياً لصالح تركيا، سيمهد لإعادة انتخاب أردوغان، رئيساً للبلاد، في العام 2023، بكل أريحية. وإن فشلت، فستكون مقدمة، ربما، لنهاية الحياة السياسية لرجلٍ غيّر وجه تركيا، وفق مقاييس عديدة، سلبية وإيجابية، باختلاف الناظرين إليها. لكن، هل هناك خيارات أخرى أمام أردوغان، سوى "الهروب إلى الأمام عبر المنطقة الآمنة؟".

 الخيارات الأخرى، كلها قاسية، أحدها أن يصافح أردوغان بشار الأسد، وأن يقبل بقواعد اللعبة وفق الترتيبات الروسية، وهو ما يعني أن يكون الأمن القومي التركي، تحت رحمة نظام الأسد، الحاقد، بشدة، حيال أنقرة، والذي لا توجد ضمانات أن يرحمها، حينما يصبح على حدودها، في شمال شرق سوريا، مرة أخرى. ناهيك عن أن مصير اللاجئين الذين يقاربون الـ 3.5 مليون في تركيا، سيبقى غامضاً، مع تضاءل فرص العودة الآمنة، في ظل غلبة نظام الأسد. وفي خيار آخر، ربما على أردوغان القبول بقواعد اللعبة الأمريكية، وهي أيضاً لا تقدم ضمانات للأمن القومي التركي، حيال ملفي، اللاجئين السوريين، وانتشار قوى كردية موالية لحزب العمال الكردستاني، على الحدود الجنوبية لتركيا، مع نيلها المزيد من الاستقلالية، التي ستتجاوز الحكم الذاتي، بمراحل، إن تم القبول بالسياسة الأمريكية الراهنة في "شرق الفرت".

هكذا، يبدو أن جميع الخيارات المتاحة لـ أردوغان، هي خيارات سيئة. ويبدو من بينها، أن "الهروب إلى الأمام عبر المنطقة الآمنة"، هو الأقل سوءاً.

ترك تعليق

التعليق